رواية "الخرّوبة" للكاتب رشيد النّجاب في اليوم السّابع
رواية "الخرّوبة" للكاتب رشيد النّجاب في اليوم السّابع
رحلة سردية مفعمة بالحنين والرمز.. تسكن الذاكرة.. وتقاوم النّسيان.
القدس 26-6-2025 من ديمة جمعة السمان
استضافت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية الأسيوعية بالتعاون مع نادي الموظفين في القدس الكاتب الفلسطيني الأردني رشيد عبد الرحمن النجّاب لنقاش باكورة أعماله الروائية بعنوان "الخرّوبة"، والتي صدرت عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمّان، في طبعة أنيقة من 111 صفحة من القطع المتوسط، وصمّمت غلافها المهندسة سجود العناسوة.
وسط حضور نوعي من الكتاب والأدباء والمهتمين بالشّأن الثقافي والأدبي، استهلّت مديرة الندوة ديمة جمعة السّمان كلماتها بالتعريف بالكاتب والترحيب به وبالحضور ، مشيدة بأهمية الرواية وما تطرحه من قضايا إنسانيّة وتاريخية مرتبطة بالذاكرة الفلسطينية، وأشادت بتجربة النّجاب، قالت:
تأتي هذه الرواية بوصفها سيرة غيرية لجدّ الكاتب، "رشيد" والذي يحمل الكاتب اسمه.
كتبها الحفيد بلغة روائية تجمع بين التوثيق التاريخي مغموس بخيال محبّب.. فلم يكن لديه خيارا آخر.. فهذا ما اقتضته الضرورة لشحّ التفاصيل الدقيقة.
في قلب الرواية، نقف أمام شخصيّة الجد رشيد، الإبن الذّكر الوحيد لأبويه عبد الرحمن ومِصلحة، والذي، رغم عاطفة العائلة التي كانت تتعلّق به كسندٍ وحيد، لم يختبئ ولم يهرب من التّجنيد الإجباري في زمن الدولة العثمانية. لقد استجاب للنداء دون خوف، متشبثًا بكرامته، ومؤمنًا أن الرجولة تُختبر بالمواقف لا بالعمر. ويكاد المرء يسمع في الرواية وقع خطاه وهو يغادر القرية بعزم لا يلتفت خلفه.
يتنقّل النص بين الأمكنة، بدءًا من قريته جبيا إلى بعلبك، حيث خضع للتدريب العسكري القاسي، مصوّرًا مشقة الطريق ومناخات الغربة ووطأة الوداع.
يرصد الكاتب لحظات القلق التي عاشها الوالدان والأختان، فاطمة وحمدة، فيما يرسم في المقابل شخصية الجد وقد بدأ يُلفت أنظار المدربين الأتراك بذكائه وانضباطه، حتى أصبح مدرّبًا في صفوف المجندين.
لم تكن الرواية تسجيلًا لرحلة جسد فقط، بل لرحلة روح؛ لحكاية الشاب الذي أصبح رجلًا بين لهيب التدريب، ثم عاد بعد عامين إلى قريته، وقد أنهكته الغربة.
وما أن وصل حتّى تلقّى خبر وفاة والده فأثقل قلبَه الفقدُ.. ولكن حين التقت عيناه بعيني والدته، اختصر الموقف بكلمات ترتعش فيها الرّجولة والحنان: "أما ما بعد ذلك يا أمّي، فبداية عهد جديد".
أبدع الكاتب بأسلوب "السهل الممتنع"، إذ منح القارىء نصًّا عذبًا مُحكمًا لا تكلّف فيه، مُشبعًا بمفردات البيئة، دقيقًا في رصد القرى والمدن، مما يكشف عن جهد بحثي جدير بالثّناء.
الرواية، وإن تفتقر لبعض التّفاصيل الصّغيرة، تعوّض ذلك بخيال روائي رصين، يحوّل النّقص إلى فسحة للتّأمّل.
"الخرّوبة" عنوان له دلالاته.. إذ إنها شجرة تقاوم الجفاف، تمامًا كما تقاوم الذاكرة نداء النسيان.
هذه الرواية إضافة ثمينة إلى الأدب الفلسطيني والعربي، وهي بلا شك تستحق أن يُكتب لها جزء ثانٍ، كما يُكتب للرجال أمثال الجد رشيد أن يكونوا حاضرين في الوجدان، مهما مضى الزمن.
وقال محمود شقير:
1
حين شرع رشيد عبد الرحمن النجّاب في كتابة سيرة جدّه رشيد لم يجد بدًّا، بسبب شحّ المعلومات الشخصية لديه عن الجد، من إطلاق العنان لمخيّلته لكي تستحضر المرحلة التي عاش فيها جدّه أواخر أيام الدولة العثمانية، التي شهدت إقدام الدولة على تجنيد الشباب الفلسطينيين والزج بهم في حروبها العديدة في أصقاع الأرض المختلفة.
الجدّ رشيد يُساق إلى الجنديّة رغم أنه وحيد أبويه، ومن أجل الإضاءة على تجربته يحشد الحفيد تفاصيل كثيرة متخيَّلة، لكنها تصبّ في المنحى التاريخي لتلك المرحلة التي عايشها الجد، ولا تخرج عن إطارها.
يكتب رشيد النجّاب رواية سيريّة هي روايته الأولى بالاعتماد على رصيده الثقافي واطلاعه على عدد غير قليل من الروايات، وكذلك على اضطلاعه بكتابة قراءات نقدية لوفرة من الروايات. لذلك اتسمت روايته بالنجاح وبتجنّب السلبيات التي يمكن أن تحدث للتجارب الإبداعية الأولى.
2
الجد رشيد هو بطل الرواية الرئيس وباقي الشخصيات كانت لها أدوار ثانوية متفرّعة من الاهتمام بمصير البطل الذي اقتيد للحرب، والده عبد الرحمن ووالدته مصلحة كانا مهمومين بمصير الابن الوحيد الذاهب بعيدًا نحو المجهول. مصلحة حملت إحدى عشرة مرة، ولم يعش من جراء هذا الحمل المتكرّر سوى رشيد وشقيقتيه فاطمة وحمدة.
كان الشاب رشيد محبوبًا من أهل القرية، جيبيا، ومن أهالي القرى المجاورة، لكنه كان موضع إشفاق بسبب أنه وحيد أبويه، وهو السند الوحيد لهما ولأختيه، وأي أذى يصيبه سيكون فادحًا وذا وقع مؤلم على الأسرة.
لذلك، آثر والداه ألا يشجعاه على الاختفاء من سطوة الجنود العثمانيين الذين وفدوا إلى القرية لجلب الشباب إلى الجندية وإلى الحرب، لأنه سيكون عرضة للقتل إن عثر الجنود عليه، ولذلك سلّم رشيد نفسه للجنود طوعًا لا كرهًا، وظلت أمه ترقب بقلق وحزن موكب الجنود ومعهم ابنها رشيد، وهي جالسة في ظل الخروبة التي استحقت أن تكون عنوانًا للرواية. كان الموكب يبتعد عن ناظريها ومع هذا الابتعاد كان يكبر حزنها وقلقها.
3
ولكي يضفي الكاتب صدقية على بنية الرواية، فقد طعّم السرد الذي تولاه الراوي العليم بكثير من مفردات البيئة الشعبية ومن الأمثال الشعبية والنوادر والحكايات، بحيث جرى تعزيز المنحى الواقعي للرواية، وفي الوقت ذاته ترسيخ الجذور الطبقية لبطل الرواية رشيد، الذي تعيش أسرته في سقيفة متواضعة البنيان، وبحيث يتخذ والداه من الخروبة المعمّرة القريبة من البيت مجلسًا ومكان انتظار للابن الغائب لعله يعود إلى القرية ذات يوم.
4
تستعين الرواية ببعض تقنيات أدب الرحلات أثناء تتبع الطريق التي سلكها الجنود ومعهم بطل الرواية رشيد، حيث الوصف الملائم للأمكنة العديدة التي مرّ بها الجد، وما تحفل به تلك الأمكنة من تفاصيل، وذلك لكي يضع الكاتب قراءه أمام تلك التفاصيل على كثرتها بتشويق لا يغيب، وبإيقاع متمهّل لكنّه متناسب ومتناغم مع كثرة التفاصيل.
ويتسم ذكر الأمكنة في الرواية بأهمية خاصة، فمن خروبة جيبيا مرورًا بالعديد من القرى إلى القدس، مرورًا بالعديد من القرى والمدن وصولًا إلى دمشق ومنها إلى بعلبك نجد أنفسنا أمام أمكنة لا يعرفها بدقّة إلا أصحابها المنتمون إليها، من أمثال الجدّ الفلسطيني رشيد النجاب، فكأنّ الرواية تحاول بشكل غير مباشر أن تقطع الطريق على مقولات الحركة الصهيونية المضلِّلة عن أرض غير مسكونة كلها مستنقعات، وعن أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
5
بلغة موحية أكثرها فصيح وبعضها باللهجة المحكية، وسرد حافل بالتفاصيل يكتب رشيد النجاب روايته، ويتابع رحلة جدّه الذي يتمتع بقوة الشخصية وبالجدّ والاجتهاد والتميز في أداء ما يُطلب منه من واجبات، إلى الحد الذي جعل المسؤولين يرضون عنه، فلا يرسلونه إلى جبهات القتال.
وحين يُكلف بالعودة إلى القدس لأداء إحدى المهمات تشاء الظروف أن تحلَّ الهزيمة بالدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فيجد رشيد نفسه وهو في القدس في حلٍّ من أي ارتباط، فيعود إلى القرية حيث الأم التي تنتظر ابنها الوحيد، وحيث النهاية المفتوحة التي تشير إلى أن الحفيد سوف يستكمل الكتابة عن الجدّ وعن أبنائه وبناته وأحفاده وحفيداته، وعن عائلة مناضلة لها شأنها في الشأن الفلسطيني العام.
وقال عبدالله دعيس:
في روايته (الخرّوبة) يسرد الكاتب رشيد عبد الرحمن النجاب، حكاية جده الذي كان جنديا في الجيش العثمانيّ، في أواخر عهد الدولة العثمانيّة في بلاد الشّام، ومن خلال هذه الحكاية، يصف جانبا من الحياة الاجتماعيّة في فلسطين، في بداية القرن العشرين، وتحديدا في قرى شمال رام الله، ويتحدّث عن بعض الأحداث السّياسيّة وتأثيرها على المنطقة.
يذكر الكاتب أسماء العديد من القرى التي تقع شمال مدينة رام الله، منها قريته جيبيا، وأم صفاة وبرهام وكوبر وبير زيت وغيرها، ويصف رحلة جدّه إلى القدس، ثمّ منها وباستخدام القطار إلى الشّام، ثمّ إلى بعلبك. ومن خلال هذه الرّحلة يرسم خارطة دقيقة للبلاد، ويُظهر ترابطها ووحدتها قبل أن يغزوها الغرباء ويفرّقوا شمل أهلها ويحوّلوها إلى دويلات تفصل بينها الحدود، أو ترزح تحت وطأة الاحتلال.
لم تكن الحياة سهلة حينئذ، ولم تسد العدالة ولم يعمّ الرّخاء، بل كانت أيّاما صعبة، سيق فيها شباب القرى والمدن ليخوضوا حربا ليست حربهم، وتُركت العائلات لتواجه مصيرها دون أبنائها الذين كانوا يحملون عنها عبء العمل وتوفير لقمة العيش. ومع خشونة العيش واضطهاد الحكّام الأتراك، إلّا أنّ الرّواية تظهر مجتمعا متماسكا ذا ثقافة عميقة عريقة، ضاربة جذورها في أعماق الأرض، لا يضيرها ولا يغيّر هويتها تعاقب الغرباء وتسلّطهم. فهي ليست مجرّد قطعة أرض يمكن الانتقال إلى غيرها، بل هي روح تسكن أهلها، وهي أصيلة كشجرة خرّوب عتيقة، ضاربة جذورها في الأعماق، لا تنمو إلا في ترابها وتحت سمائها.
استخدم الكاتب أسلوب الرّاوي العليم، ليروي الحكاية، بعيدا عن الشّخصيّة الرئيسيّة (رشيد). فالراوي يصف تفاصيل ما يدور من أحداث، ويستشرف المستقبل ويتحدّث أحيانا عمّا سيكون من أحداث بعد سنين أو عقود؛ فهو يعلم ما ستؤول إليه الأمور، ويتحدّث عن المدن التي يزورها رشيد، رغم أنّ رشيد لا يعلم عنها شيئا. يظهر صوت الرّاوي ليكون أعلى من صوت شخصيّاته، وليكون هو الذي يدير الأحداث ويوجّهها. هذا الأسلوب أضعف النّص وخرج بالقارئ من الجوّ التّاريخي للرواية. فالقارئ يشعر أن الكاتب يتحدّث إليه ويملي عليه الأحداث، ولا يرى الشّخصيّات تتحرّك وتتفاعل وتشعر كما ينبغي لها.
تعرّضت الرّواية لبعض الجوانب من الحياة الاجتماعيّة في تلك الفترة، لكن كان بالإمكان أن يتعرّض الكاتب لجوانب أكثر من تلك المتعلّقة بأخذ الجنود إلى القتال، فلم تخل القرية في ذاك الوقت من حكايات عشق أو صراع بين العائلات أو مواسم وأفراح وأتراح. فحبّذا لو تحدّث أكثر عن ثقافة أهل فلسطين، وأصل تعلّقهم بأرضهم ودفاعهم عنها، مهما كانت سطوة العدوّ، ومهما وقع عليهم من قتل ودمار.
تدور أحداث الرواية في فترة الحرب العالمية الأولى، وهي فترة فاصلة في تاريخ فلسطين وبلاد الشّام، دارت فيها أحداث كثيرة وشكّلت تاريخ المنطقة إلى وقتنا الحاضر، لكن الرّواية أهملت كثيرا من الأحداث، ولم تُضف كثيرا إلى الجانب التّاريخي، واقتصرت على موضوع واحد تكرّر في كثير من الروايات والحكايات والأعمال الفنيّة، ألا وهو تجنيد الشبّان. ويبدو أنّ الكاتب اعتمد بشكل أساسيّ على الرّوايات الشّفويّة، ولم يستطع أن يبني رواية تاريخيّة تحكي الأحداث من خلال شخصيّاتها.
وصف الكاتب القرى الفلسطينية في شمال رام الله وذكر عنها بعض المعلومات، لكنّها ليست كافية لمن لا يعرف تلك المنطقة، فمثلا ذكر الكاتب العلاقة بين الفلاحين والبراغثة، ولم يعرّف القارئ بشيء عنها وهي غير معروفة لمعظم القرّاء.
تخلو الرواية من الحوار بين الشّخصيات، ويعتمد الكاتب بشكل كلّي على السّرد المباشر المتتابع زمنيّا.
عنوان الرّواية مناسب، يشير إلى الخروبة وهي من أشجار فلسطين المخضرّة طوال العام الضاربة في الأرض والتّاريخ. تنتهي الرّواية بعودة رشيد، وبداية عهد جديد. لكن، هل كان ذاك العهد أفضل مما سبقه؟ وهل صمدت الخرّوبة لتعايش ما طرأ من أحداث وما تعاقب على هذه الأرض من حكايات البطولة والخذلان؟
وقالت روز اليوسف شعبان:
هذه الرواية هي سيرة غيريّة، يسرد فيها الكاتب رشيد النجّاب، سيرة جدّه رشيد في أواخر العهد العثماني، حين اقتيد للتجنيد إبّان الحرب العالميّة الأولى، رغم أنّه كان ولدًا وحيدًا لأسرته المكوّنة من مِصلحة، والده عبد الرحمن وأختيه حمدة وفاطمة.
عاشت الأسرة في بلدة جيبيا قضاء رام الله، واعتمدت في معيشتها على الفلاحة. وكانت حياتها بسيطة بدائيّة كما سائر السكّان في تلك الحقبة الزمنية.
يصف الكاتب فترة مكوث جدّه رشيد في التجنيد القسريّ والتي امتدّت سنتين قضاهما مع الجيش العثمانيّ في ضواحي دمشق، واصفا جميع الأماكن التي مرّ بها في العربات والقطار من جيبيا بلدة رشيد الواقعة بالقرب من رام الله، وحتّى دمشق، وما تركته هذه الأماكن من أثر بالغ في نفسيّة رشيد، هذا الشابّ الذي تميّز بقوّته وصلابته، وصبره وشجاعته، وقدرته الهائلة على تحمّل الصعاب والعذاب الذي كان يتلقّاه هو وباقي المجنّدين من القادة الأتراك، حيث عوملوا من قبل القادة الأتراك بصرامة وقسوة، فأذاقوهم أصنافًا من العذاب والإهانة والضرب، لأتفه الأسباب. بالرغم من ذلك فقد تجلّد رشيد وأظهر براعة ومهارة في الرمي وتسديد الأهداف؛ ممّا أهّله ذلك لتدريب مجموعة من المجنّدين على الرمي، هذا الأمر أبقاه بالقرب من دمشق، فلم يذهب مع غالبية الجنود للقتال.
أظهر رشيد حنكةً كبيرةً وفطنةً وأخلاقًا ساميةً وقدرةً كبيرةً على التواصل والتعرّف على الناس، فتعرّف على أحد المجنّدين وهو سالم نخلة الذي توثّقت العلاقات بينهما وامتدت إلى عائلتيها، كما أبدى رشيد رغبة كبيرة في التعرّف على الأماكن ومعرفة تاريخها، وقد تعلّم القراءة من جندي أزهريّ اسمه محمود، كان رشيد يدرّبه على الرماية.
حين كان رشيد في الجيش قرّر والده الهجرة من بلدتهم جيبيا إلى منطقة الساحل في يافا للعمل في قطف البرتقال نظرا لشحّ المياه في جيبيا. لكنّ عبد الرحمن توفيّ في الغربة، فعادت مصلحة وابنتاها حمدة وفاطمة إلى سقيفة العائلة في جيبيا، وبقيت تنتظر عودة ابنها تحت شجرة الخرّوب حتى عاد بعد سنتين من تجنيده بعد أن خسرت ألمانيا الحرب وهزمت هي وحليفاتها.
دلالات المكان في الرواية:
يُعدّ المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة.
يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ السرديّة، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله (الطويسي، 2004، ص. 167.).
إذًا، لا قيمة للمكان ما لم يحفل بالشخصيّات التي تمنحه المعنى وتُسهم في إغنائه بالدلالات، من خلال العلاقات المختلفة التي قد تدخل فيها هذه الشخصيّات مع المكان، كعلاقات التنافر أو الحياد أو الانتماء (قاسم، 1984، ص. 76.). فالمكان "عنصر حيّ فاعل في هذه الأحداث، وفي هذه الشخصيّات، إنّه حدث وجزء من الشخصيّة، وهو الذي يؤسّس الحكي في معظم الأحيان لأنّه يجعل القصّة المتخيّلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة" (حميداني، 2000، ص. 53، 65). لذا "فالمكان يكتسب أهمّيّة من خلال معايشة البطل للأمكنة والأحياء التي تمتُّ له بالصلة سواء من قريب أو من بعيد، فيكون المكان هو اللوحة النفسيّة التي عاشها وعايشها البطل" (محبك، د. ت.، ص. 55.).
في رواية الخرّوبة، لا يبدو المكان مجرد خلفية للأحداث، بل يصبح كائنًا حيًّا، يرافق البطل رشيد في رحلة الألم والانتماء، من جيبيا إلى دمشق، ومن الحقل إلى ساحات الحرب.
ولعلّ إهداء الكاتب في روايته يشير إلى تأثير هذه الأماكن على نفسيّته فجاء في إهدائه:" إلى أرواح عانقت الطبيعة الجميلة في جيبيا، جدّتي جدّي أمّي وأبي.
بدت لنا الأمكنة زاخرة بالجمال وعبق التاريخ والذكريات التي تداعب خيال رشيد بين الفينة والأخرى. فهي أماكن تحوي الكثير من الشواهد التي تدّل على جمال وعظمة وحضارة هذه البلاد.
لا يكتفي المكان في الخرّوبة بأن يكون حاضنًا للأحداث، بل يتجاوز ذلك ليُصبح حاضنًا للذاكرة والحلم، حافزًا للانفعال الوجداني، ومجلى لجمال الطبيعة الفلسطينيّة بتضاريسها، وتاريخها، وروحها المتجدّدة.
وقد لفت غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان إلى أنّ للمكان قيمةً وجدانيةً تُستمدّ من التجربة الحسيّة والمعيشة اليوميّة، حيث يقول:
. “إنّ البيت ليس مجرّد مكان للسكن، بل هو كونٌ داخلي، ومسرحٌ للخيال والذكريات”
وهذا ما نجده متجليًا في تصوير الكاتب لرشيد وهو يطلّ من نافذة القطار، يرقب مشاهد بتير وطولكرم وسيلة الظهر، فتختلط أمامه صورة الطبيعة الحاضرة بصدى الذكريات والحنين إلى بلدة جيبيا
كذلك فإن تصوير شجرة الخرّوب كمعبدٍ يوميّ للأم المنتظرة، يجعل من المكان عنصرًا شعريًا ذا بعد جمالي، يرتقي بالفضاء السرديّ من المستوى الواقعيّ إلى مستوى رمزيّ وجدانيّ، فيتحوّل المكان إلى ذاتٍ تتنفّس، وتتألّم، وتنتظر.
وبذلك تتلاقى الرواية مع ما ذهب إليه غالب هلسا حين رأى أنّ جماليات المكان لا تنبع من وصفه المجرد، بل من العلاقة الحميميّة التي تربط الشخصيّة به، وتجعله مرآة داخليّة لوجدانها". (هلسا، الفضاء الروائي، ص.45).)
بدأ ترحيل المجنّدين عن طريق جفتا عين سينيا باتجاه طريق نابلس القدس، وقد لمح المجنّدون عن بعد بعض معالم القدس، قبّة الصخرة وبعض الكنائس، ثم صعد المجنّدون الى عربات القطار ليتوزّعوا في غزّة يافا البلقان ودمشق وكان رشيد ضمن المجموعة التي توجّهت إلى دمشق.
رأى رشيد من نافذة القطار بلدة بتير المميّزة الغارقة في خضرة رائعة الجمال شكّلتها أشجار مثمرة وأخرى باسقة حارسة للطبيعة (ص 42). ثم وصل القطار بلدة طول كرم ثم جنين مرورا بسيلة الظهر ومرج بن عامر ثم العفولة وبيسان وفي غمرة هذه الرحلة، يتذكّر بلدته بيتيا فيرى نفسه أمام السقيفة يتأمّل القادم من الأيّام ويرتب مع والديه ما يقتضيه الموسم من أعمال: موسم العنب والتين وتبعاتهما...
يذكر الكاتب أسماء الأماكن التي مرّ منها القطار: جسر المجامع، وادي اليرموك، سمخ التي مسحها اليهود وأقاموا مستوطنة بديلة باسم "تسيماح"(ص 64)، ثمّ الحمّة، وتلّ الشهاب درعا، سهل البقاع بجوار بعلبك (ص 69).
فما دلالات كلّ هذه الأمكنة؟ ولماذا أتى الكاتب على ذكرها بالتفصيل؟
ربّما أراد الكاتب أن يبيّن لنا، أنّ تتبّع هذه الأماكن ليس فقط لتوثيق الجغرافيا، بل هو تأكيد على وحدة الأرض والهويّة، في وجه التمزّق السياسي الحديث. فهي منطقة جغرافيّة واحدة، تتشابه في التضاريس والحضارات والعادات، ومرّت في ذات الظروف من احتلال العديد من الشعوب لها، فذهب المحتلّون وبقيت هذه الأماكن بآثارها وحضارتها شاهدة على من مرّوا بها. ولعلّ الاقتباس التالي من الرواية ما يشير إلى ذلك:" وصل المجنّدون إلى بعلبك، لم تكن الخضرة بزهوّ حضورها وحدها مبعث لهذه الدهشة فليس المكان إلّا امتدادًا طبيعيًّا لتضاريس فلسطين، إنّما تمحور الانتباه حول هياكل أبنية تعاظمت في شموخها واتصالها وامتدادها ممّا أدهشهم ذلك"(ص 76).
وقد ذكر الكاتب بعض هذه الأمكنة مع ذكر أصلها وتاريخها، فعن مدينة بعلبك كتب ما يلي:" بعلبك" مدينة الشمس" وأحد مساكن الإله "بعل"(ص 76). كما أتى على ذكر سوق الحميديّة في دمشق، ليبرز أهميّته التاريخيّة والاقتصاديّة:" اسم سوق الحميديّة منسوب للسلطان العثماني حميد الأوّل، الذي بني السوق في عهده في نهاية سبعينيّات القرن التاسع عشر في موقع قريب من قلعة دمشق، ويرتبط سوق الحميديّة بأسواق عديدة وفقًا للحِِرف التي تضمّها هذه الأسواق، أو المنتجات التي تتوافر تحت سقوفها، فهذا سوق للصاغة وآخر للحبوب، وسوق لتجهيز مستلزمات الأعراس وآخر لمستلزمات الخيول وغيرها...(ص 70).
وعن مدينة بيسان كتب:" بيسان أيضًا مرتبطة بالفراعنة فهي عاصمة حكمهم في فلسطين وفيها شواهد على حضارتهم (ص 55). وعن بلدة سمخ كتب:" سمخ القرية الصغيرة الوادعة التي تحرس الشاطئ الجنوبيّ الشرقيّ لبحيرة طبرية، البحيرة التي شهدت نشأة القائد الفلسطينيّ ظاهر العمر الزيدانيّ، الذي أقام أوّل كيان فلسطينيّ في القرن الثالث عشر فحكم عكّا وأنشأ مدينة حيفا (ص 64).
ولعلّ أهمّ الأمكنة التي لها دلالات وطنيّة مهمّة هي شجرة الخرّوب، حيث كانت أم رشيد تستظلّ بظلّها، فجعلت من الخرّوبة مقرّها ومقامها في ساعات العصر، بل كانت صومعتها، معبدها وموئلها اليوميّ الذي تلجأ إليه في العصاري، كأنّها تعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة، وتجمّعت حولها النساء والجارات والقريبات، كانت مصلحة حكّاءة ماهرة حكت لهنّ عن الهجرة ومعاناتهم، والمحطّات التي مرّوا بها ومشاعر القلق التي كانت تعتريهم"(ص 105).
هذه الخروبّة التي كانت مكانًا آمنًا لمِصلحة وغيرها من النساء، كانت أيضا مكانًا لاسترجاع الذكريات، منها ذكريات جميلة ومنها ذكريات حزينة، لكنّها مع ذلك كانت المكان الذي كانت مصلحة تنتظر فيه وحيدها رشيد، وهو ذات المكان الذي اختفت فيه شجرة الخرّوب بعد ما يقرب من قرن:" يمّم عبد الرحمن شرقا باتجاه المرج حيث تبدأ الطريق بالانحدار نحو خرّوبة النحلة، ثمّ غابت الخرّوبة بعد ما يقرب من قرن واختلفت الآراء فمن قائل أنّ معتديا أثيما يعمل في التحطيب اغتالها، إلى قائل أنّها جفّت بفعل مرض، وذهب آخرون إلى تحميل المسؤوليّة لجيش الاحتلال الذي اغتالها برشقة من رصاص نظرًا إلى شهرته اعلى الصعيد الشعبيّ( ص 57).
وهكذا، تتحوّل الخرّوبة من كائن نباتيّ إلى معلمٍ ذاكراتيّ، يحمل في جذوره قصص الانتظار، ويُغتال كما تُغتال معالم الذاكرة الفلسطينية.
إنّ هذه المعلومات التي ساقها الكاتب عن الأمكنة المذكورة أعلاه، لم تكن محض صدفة، وإنّما أضاء بذلك على أصل بعض هذه الأمكنة وتاريخها، موضّحًا الأصول التاريخيّة لهذه البلاد، وحقّ شعبها الفلسطينيّ في العيش على أرضه، حيث الشواهد التاريخيّة والحضاريّة والثقافيّة شاهدة على جذوره ورسوخه وثباته في هذه الأرض.
وفي الختام حبّذا لو حدّد الكاتب مواقع بعض البلدات التي ذكرت في الرواية، مثل: بيتيا، بتير، جسر المجامع، وادي اليرموك، سيلة الظهر وغيرها... أو ربّما لو أرفق خريطة توضيحيّة للمسار الجغرافيّ لرشيد لكان ذلك دعمًا بصريًا يساعد القارئ في معرفة مواقع الأماكن وجغرافيّتها.
وأخيرًا، هل يمكن اعتبار هذه السيرة الغيريّة مرجعًا تاريخيّا توثيقيّا لحياة الفلسطينيّ في أواخر الحكم العثمانيّ وتحديدًا في فترة الحرب العالميّة الأولى؟
لا تغدو هذه الرواية برأيي مجرّد سرد لسيرة غيريّة، بل هي وثيقة سرديّة تحتفظ بذاكرة المكان، وتعيد رسم ملامح الحياة الفلسطينية في أواخر العهد العثماني، وتحديدًا خلال الحرب العالميّة الأولى.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
هي سيرة غيرية تؤرخ لفترة الحكم العثماني، عن جدّ الكاتب رشيد الذي التحق للتجنيد بالرغم من أنه وحيد والديّه، رشيد عبد الرّحمن النّجاب.
في هذه السّيرة بضمير الغائب ،يصور الكاتب انتقال الجنود والشباب المجندين بعد السّير الطويل،والبعض في عربات إلى القطار الموجود في سكّة الحديد الحجازية في القدس،رحلة طويلة بسبب توقف القطار في المحطات،رحلة فيها المشقة والمخاطر من جيبيا حتى بعلبك.
عنوان الرّواية "الخروبة"يمثل الأمل والانتظار والحنين والشوق لعودة رشيد،وأصبحت ملتقى بين النساء للأحاديث،تمّ ذكر الخروبة في المرّة الأولى في صفحة 21،وثمّ في الصفحات 56،105.
استطاع الكاتب بلغته الانسيابية أن يجعلنا نتشوق في البحث عن الخرّوبة،ونتساءل أين الخروبة؟ لتتضح الصورة شيئا فشيئا في علاقة الخرّوبة بأم رشيد التي كانت متنفسا لها،وأصبحت صومعتها.
وصف الكاتب حالة العاطفة عند أم رشيد قبل وبعد تجنيده.حالة القلق والتّوتر كانت طاغية على نفسية الأم.مرافقة بالحوار الذاتي والتّساؤلات الحائرة بشأن مصير ابنها.وقد منح الكاتب مكانة للمرأة في بداية السّيرة ؛ليصف مشاعر مصلحة(أم رشيد )الجياشة. برزت العاطفة أيضا من خلال الحوار بالّلهجة العاميّة.وأيضا برزت العاطفة الحزينة من خلال أثر الحزن في عدم رغبتهم للطعام.
برز القلق أيضا من خلال الصمت العميق لعائلة عبدالرّحمن، كلّ فرد ينفرد بقلقه دون مشاركة الآخر. كما نتج عن ذلك الأحلام المزعجة.
برزت العاطفة عند الوالد عند محاولته ثني السّلطات العثمانية من تجنيد ابنه الوحيد، من خلال الاستجداء والاستعطاف. برزت العاطفة عند أم ذيب في قلقها تجاه ابنها.تقول"ما هو أنت لا صلّيت ولا ولدت ولا بتعرف شو يعني الولد لأمّه".وأيضا برزت العاطفة عند الأمهات عامّة"في كلّ قلب حرقة،في كلّ نفس ضيق".
رغم العاطفة الحزينة،كان شعاع الأمل يبرق في قلبها،من خلال إيمانها أنّ رشيد سوف يرجع.
برز وجه الأمل من خلال شخصية أم رشيد التّي انتصرت على وجه الحزن بسبب مصير ابنها الذي لا تعرف عنه شيئا.فقد أصرّت أن تتحدّى الظروف والاهتمام ببيتها،وعادات عملها اليومية في البيت من طهي،ورعاية الحيوانات.
تميّزت شخصية رشيد بالفصاحة، وتحملّ المسؤولية، وهو صاحب مسؤولية طموحة للمعرفة وذكيّ.
للمكان أهمية في السّيرة، حيث تشهد السّيرة عدّة تنقلات بين الأماكن،حيث يصف الكاتب الأماكن التي مرّ بها رشيد عبر الطرق والقطار.من القرى والمدن الفلسطينية مثل جيبيا قرية رشيد من قرى رام الله, المحيطة بقرى كوبر، وبرهام وأم صفاة، كما وذكر القدس وبعض الأحياء مثل القطمون،البقعا،بتير ،بيت صفافا،وأيضا الأماكن خارج فلسطين مثل دمشق،درعا وبعلبك.
صوّر المعالم الدينية على سبيل المثال لا الحصر مثل:الكنائس في القدس،وقبة الصخرة والمسجد الأقصى.
صوّر المقامات الدّينية مثل: مقام بايزيد البسطامي.
ذكر أسوار القدس وحاراتها،وأيضا الأسواق في دمشق.
وصف القطار ومقاعده الرّثة، ومشقة الرّحلة.
استخدم الكاتب عدّة مفردات لإبراز شكل الحياة في فترة الحكم العثماني.
مثل:السّقيفة،طاسة،الجودلة،السّراج ،الزّير،المختار،البئر،الجودلة
أحسن الكاتب في التذييل بأسفل لتوضيح بعض المفردات القديمة.يوظف الأمثال الشعبية في السّيرة في محاكاة الواقع والظروف،استخدم اللهجة العامية في الحوار ممّا منح مصداقية للنص
استخدم اقتباسا لشعر المتنبي ولكن كان في خطأ في الاقتباس.والبيت الصحيح هو.
الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ
هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني
وقال حسن عبادي:
شاركت بمعرض عمان الدولي للكتاب في دورته الثالثة والعشرين، والتقيت بالأديب رشيد النجّاب الذي أهداني نسخة من كتابه "الخَرُّوبة".
الخَرّوب شجرة أصيلة ممتدّة الظلال ودائمة الخضرة، معمّرة، ومنها يُحضَّر رُبّ ودبس الخروب شراب ويضاف للعصيدة؛ وجاء ذكر الخرُّوبة للمرّة الأولى في صفحة 21، وكانت معلم وإشارة، فلم تكن أسماء للطرقات، واعتاد الناس للإشارة لعلامة واضحة مميّزة تكون نقطة فارقة متعارفاً عليها، تماماً، بلا تشبيه، كالسيّارة الخربانة التي أشار لي شاعر صديق في إحدى مدن الضفّة الغربيّة واصفاً لي مكان سكناه. إنها خروبة قديمة قدم الزمان/ "خرُّوبة النحلة" القديمة التي "استقرَّت بين أغصانها نحلة وجعلت لها فيها مقرًّا" وصارت معلماً مشهوراً ممّا أغاظ الاحتلال واغتالها (ص 56)، تماماً كما اغتال السجّان ريحانة صديقي الأسير محمد مرداوي في سجن النقب الصحراوي، ووردة صديقي المرحوم زهير لبادة الحمراء التي صادرها السجّان وأعدمها. باتت الخروبة مقرّاً ومقاماً، منها تم اقتياد رشيد للجنديّة، "وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم"، صارت صومعة الوالدة ومعبدها وموئلها اليومي، المرصد وخروبة الانتظار، وتعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة في ظلّها.
جاء في الإهداء: "إلى أرواح عانقت الطبيعة الجميلة في جيبيا… جدتي وجدّي...أمي وأبي"، ولفتت انتباهي "جيبْيا" (بلدة آبائه وأجداده، قرية جبليّة فلسطينيّة تقع شمالي رام الله، تحيطها أراضي قرى: كوبر، وبرهام، وأم صفا).
أخذني الكتاب مجدّداً إلى قصيدة "رجل وخشف في الحديقة" التي أهداها شاعرنا محمود درويش إلى سليمان النجّاب (ديوان لا تعتذر عمّا فعلت).
يجمع الكتاب ما بين السيرة الغيريّة وأدب الرحلات، سيرة جدّه ومرحلته. يصوّر رحلة العذاب وطريق الآلام من جيبيا الوادعة إلى بعلبك السوريّة خلال رحلة تجنيد قسريّة في جيش السلطان العثماني.
يصوّر كاتب "أدب الرحلات" ما صادفه من أمور وأحداث خلال سفرٍ أو رحلةٍ قام بها لأحد البلدان، يتناول معالمها، عاداتها وتقاليدها، أهلها وتاريخها، يسجّل انطباعاته ممّا شاهده هناك، وها هو الكاتب يصوّر رحلة جدّه، سميّه، رشيد النجّاب "حامل الكتاب"، "كان متحفِّزاً للمعرفة، تواقاً لما هو جديد، قادراً على تمييز الغث من السمين، يزنها بمقياس منطقه" (ص. 77)، رحلة مُتخيّلة لم يشارك فيها، بتفاصيل التفاصيل، ولم تغَب عنه شاردة وواردة.
وصف الرحلة بالقطار لأول مرّة، حكي يشابه الكذب (أعادني لمشواري الأول بالقطار، ومشوار أحفادي حين طلبا منّي التعرّف على القطار، ورحلتي الأولى لأوروبا بقطار عابر للدول)، قطار بخاري، وصفه بمقاعده، منها المقاعد الوثيرة المنجَّدة بالقطيفة، والأرضيات المفروشة بالبسط والسجاد، ومساره، من طقطق لسلامو عليكو، أدب رحلات كلاسيكي (ص. 41 فصاعداً)، ولمست هذه الظاهرة حين زارني أصدقاء من خارج البلاد، شاهدتهم يدوّنون كلّ ما يشاهدونه، والأمكنة والأسماء، كلّ صغيرة وكبيرة، ومنهم اكتسبت هذه العادة في مشاويري في السنوات الأخيرة.
تتناول الرواية عمليّة تجنيد السلطات العثمانيّة للشباب عامّة ولجدّه رشيد النجّاب خاصّة، أبان الحرب العالميّة الأولى، وما واكبها حتّى عودته إلى قريته، وعلاقة الناس بالحاكم العثماني الجائر، وكان التجنيد إلى غزة، أو مصر، أو البلقان، أو دمشق.
حاول الشباب التهرّب من تلك الخدمة ولكن جنود السلطان كانوا بالمرصاد "استفسر عن ثلاثة آخرين، فتبيَّن أن اثنين منهم قد توفيّا مريضين بالحمى، وأن الثالث غادر القرية قبل سنوات ولا أحد يدري عن مصيره شيئاً".
صوّر الكاتب عمليّة التجنيد وما يرافقها من قلق العائلة؛ والرحلة الشاقة والمضنية بالقطار من جيبيا في الريف الفلسطيني إلى بعلبك، وكذلك اليوم الأوّل في العسكريّة (ص. 81)، استحقاق غير عادل، لدولة لم تتذكَّر رعاياها عندما استحقَّ تعليمهم، ولا أمّنت لهم رعاية صحية، ولا ظروفاً معيشية كريمة، ولكنها تذكّرت أن لها رعايا عند جني الضرائب، وعند الحاجة إلى شباب تزجُّ بهم في أتون الحرب، حرب غريبة في بلاد غريبة، ليس لهم فيها ناقة ولا جمل"، منوّهاً إلى أنّ أبناء الطبقات المرفهّة المنعمة قد دفعوا البدلات المالية وربما الرشاوى لافتداء أبنائهم من الخدمة العسكريّة... ومن ثم العودة بعد طول معاناة.
دوّن بحرفيّة تلك الأمكنة التي مرّ بها رشيد؛ بداية في قريته جيبيا، وصوله إلى دمشق (وسوق الحميدية، وسوق الصاغة، وسوق البزورية، وسوق مستلزمات الأعراس، وسوق مستلزمات الخيول، وقلعة دمشق)، والعودة إليها سالماً.
كما دوّن لنا تلك المعالم التي مرّ بها رشيد في رحلته؛ "الهْرُبّة" ومقام بايزيد البسطامي وصولاً إلى جبل قاسيون ومعسكر "صيدنايا" (وليس صدنايا).
كما وصوّر لنا النباتات والأشجار؛ الخروب، الكينا، الفلفل البري، الباذنجان البتّيري، العنب والصبر، البطيخ، التين، والزيتون. والمأكولات؛ الكوسا والبندورة، الزبيب والقطين، خبز الطابون، البيض وزيت الزيتون، والجبن الأبيض والعسل. ولم ينسَ الشنانير، والحمامة البريّة.
استعان الكاتب باللغة المحكيّة ممّا أضفى على الرواية أصالة، واستعمل الأمثلة الشعبيّة الفلسطينيّة؛
ابنِك رغيف في باطية، اللي بوقع من السما بتتلقَّاه الأرض، إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني،
الصباح رباح، بيت البنات خراب، مثل خبز الشعير مأكول مذموم، من سَرى باع واشترى، يسمع دبيب النمل، اللي خلّف ما مات.
راقت لي السخرية العفوية "اتفضل خذه وسلمه، للموت، "ما هو انت لا حبلت، ولا ولدت، ولا مصّصت، ولا بتعرف شو يعني الولد لأمه"، والطيابة القرويّة "قوم يمه نام، الصباح رباح، وملحقين ع الخُرّاف"، "تدَمشَقَ"، و"تَبَغدَد".
وكذلك الأمر بالنسبة للسخرية السوداء "ثلاثة خيالة وخمسة من المشاة لتجنيد شاب واحد! هل هي سخرية القدر من السلطنة الممتدة على ثلاث قارات؟! أم هي هذه القرية الصغيرة أم هي قوة رشيد"! همس القائد في سريرته: "الحق أقول كم هو قوي هذا الشاب!" (ص. 19) ممّا أخذني إلى ما سمعته من أسرى وأسيرات كثر وصفوا لي مشهديّة ساعة الاعتقال؛ أخبرتني سهام أبو عياش حين التقيتها في سجن الدامون يوم 21 شباط 2024 عن الاعتقال المفاجئ؛ (الساعة ثنتين نصّ الليل، ليلة 24.12، المطر غزير، أكثر من 30 آليّة عسكريّة مدجّجة وأكثر من 40 جنديا اقتحموا البيت مثل الجراد، صادروا اللابتوب والجوّالات وكيس كتب كيمياء).
ذكر الكاتب بعض العادات؛ استقبال الفاردة على أطراف البلد، استقبال الغريب، "اشترط القائد أن يأكل مَن أحضروا الطعام، والمختار، قبل الجميع للتأكد من غياب نيّة التسميم"، "يتولّى أمر الدابة وربطها في مكان مناسب وتزويدها بالعلف والماء" و"العونة" ونخوة القرويّين في ذاك الزمن الجميل.
استعمال الكاتب للهوامش جاء موفقاً؛ فراري، الجودلة/ الجنبية، هيش، الماسية، "شلتونة"، اتفاقية سايكس بيكو، ولكن غاب عنه الزير (وعاء/ جرّة فخّار لشرب الماء، أحسن من أجدع ثلاجة)
والأشولة (أرغفة صغيرة من خبز الشعير) والباطية.
صوّر الكاتب الريف الفلسطينيّ؛ السقيفة، معرش العنب، الحاكورة (زوجين من الأغنام، بضع دجاجات وديك، حمار العائلة، الكلب)، عريشة تتدلّى من سقفها وجوانبها قطوف العنب الأبيض والأسود، و"عنب جيبيا غير، وهذا الصبر ما في مِثلة في المنطقة، كلها وصحتين وعافية" – ما في حدا بقول عن زيته عِكِر.
للكاتب نظرة ثاقبة، يصوّر بكاء الرجال بالكلمات؛ "دمعة الأب شديدة الألم في نفس البنت، وهي أشد ألماً في نفس الأب إن أدرك أن البنت لاحظتها"، وألم الغربة القسرية.
يرسم صورة جدّه رشيد قياديّاً بالفطرة؛ "كان كثيرون يطمئنون لوجود رشيد بينهم في هذه الجولات بناءً على ما خبروه منه من مواقف اتسمت بالحكمة، وحسن إدارة المواقف، والقدرة على تخليص المتورِّطين في مواقف صعبة، وربما تكون محرجة أحياناً" (ص. 90)، وتناقل النضال بين الأجيال حين تساءل: "هل علم ولده سليمان بهذه التجربة وهو يكابد ما استجد من فنون التعذيب خلال النصف الثاني من القرن العشرين سيما في السجون الإسرائيلية؟" (ص. 88)، وأخذني مجدّداً للقائي بالصديق أحمد عارضة في سجن الجلبوع يوم 7 آب 2023 وكان نور محور اللقاء ونجمه، وصدمني أحمد حين واجهني بالحقيقة المرّة (صدقاً، لم أفكّر بها من قبل) أنّ المصاب الجلل في نفس الدائرة، ذات العائلات تواجه الاعتقال والأسر والجروح والإعاقات وهدم المنازل... والشهادة.
راق لي استحضاره صوت فيروز في كلمات الشاعر ميشيل طراد وأغنية "بكوخنا يا ابني": "وقفوا ع شباكك يدقّو العصافير بجوانِحُن… يا جوانحن المتشرنة" عقوبة "الصرارة" وأثرها على تعلّم رشيد على التحدّي ليحقّق نبوءة "من يراهن على عزم رشيد ليس بخاسر".
للمتنبّي عتب على الكاتب؛ فهناك خطأ بعجز بيت الشعر (ص. 30)، والصحيح:
"الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أوّل وهي المحلّ الثاني"
راق لي استقبال مصلحة لابنها: "رشيد! ... هذا رشيد! ألف الحمد لله على سلامتك يمّه يا حبيبي" (ص 107).
ما أجمل صوت زغرودة العودة المشتهاة!
أخذتني النهاية لما سمعته في الفترة الأخيرة من أسرى تحرّروا في صفقة طوفان الأحرار؛ "أما ما بعد ذلك يا أمي فبداية عهد جديد" (ص. 111)
ويبقى السؤال عالقاً: هل "الخرُّوبة" رواية تاريخيّة أم أنّها سيرة غيريّة لجدّ الكاتب؟
وقال صافي صافي:
هل من السهل أن تقف على تفاصيل الذي مضى برواية؟
لا طبعا، فرشيد تناول حكاية جده رشيد في أواخر العهد العثماني، حين كان التجنيد إجباريا، حين كان الناس يحفرون الصخر من أجل لقمة عيشهم، حين كانت القرية صغيرة، والناس يعرفون بعضهم تماما، حين كانت العائلة صغيرة مهما كبرت.
رشيد الجد وحيد أبويه، ورغم ذلك يطلبونه للتجنيد، ويتجاوزون القانون، بأمر السلطان العالي. رشيد يرفض أن يكون فراري، ويختبئ في الجبال والأودية، فيواجه الطلب بشجاعة، ويتكل على الله وعلى نفسه الأبية، ويواجه دموع أمه وأخواته ونظرات أبيه بحزم وبثقة.
رحلة طويلة من المشي، وركوب عربات تجرها الخيول، وقطار متهالك، من جيبيا إلى القرى المجاورة إلى بيرزيت إلى القدس إلى يافا إلى الشام. يواجه رشيد كل ذلك بصبر، وهو الشغوف للتعرف على كل منطقة يمر منها، فكل لها ذكرياتها المحكية والدينية والتاريخية. يواجه حر الصيف ولسعات الناموس والعطش والجوع والغربة، فيقيم علاقات مع الذين حوله، يكسر من خلالها وحدته وتعبه والانغماس في ردود فعله أهله وقلقهم. حتى في أصعب الظروف، يعمل رشيد لأن يكون متفوقا، فيصبح مدربا، ويختاره القائد في مهمة سرية، لكن رشيد النبيه، ينتبه لأغراض أخرى في نفس القادة، ويخرج منها بأمان. تمر الشهور، فيتم اختياره في مهمة في القدس، وهناك تنتهي الحرب بهزيمة الدولة العثمانية، فيعود إلى أهله.
أسئلة كثيره تدور في البال، بعيدا عن الحياة الصعبة وقتها: لماذا تهتم الدولة بواجبات الرعية، ولا تهتم بحقوقهم؟ لماذا تطبيق القوانين بمراسيم القادة حتى لو خالفت الدستور؟ لماذا هزمت الدولة العظمى رغم كل الجهود الفوقية، وأحتلت بلادنا فلسطين؟ هل هزيمة الدولة من الأعداء هي الطريقة المثلى للعودة إلى البلاد؟ ما قيمة الإنسان في دولة لا ترى غير مصلحتها الذاتية؟ .. الخ أسئلة عديدة ما زالت تطرح، فنحن، جيلنا، لسنا فقط الذين عانينا من الأزمات المميتة، بل ٱباؤنا وأجدادنا، وأولادنا وأحفادنا. لأكن صريحا أخي رشيد، أنني وددت أن أقرأ المزيد عن هذه المرحلة. سعدت بقراءة هذه الرواية، وهي الأولى لك، ومتأكد أنك تملك المزيد من المعرفة والقدرات لتناول مراحل لاحقة.
كل التبريكات والتقدير، وأنت لك بصمتك في القراءة النقدية لعديد الأعمال الثقافية.
وقالت نزهة أبو غوش:
لقد أبدى الكاتب النجاب في روايته، الحرّوبة اهتمامًا واضحًا بتوثيق الجغرافيا المحلية بدقة لافتة في روايته الخروبة. وقد حمل هذا التوظيف الجغرافي دلالات عميقة، ويمكن القول في هذا الجانب: أن الكاتب قد وثق التاريخ والجغرافية الفلسطينية. ذكر القرى والبلدات مثل جيبيا، بيرزيت، كوبر، برهام، أم صفاة، عطارة، بيرزيت، دورا القرع، القدس، يافا، غزة، دمشق... يعبّر عن: التشبث بالمكان؛ وكأن الكاتب يحاول أن يرسم خريطة الذاكرة الفلسطينية قبل أن تُشوَّه أو تُنس؛ فهي توثيق غير مباشر لحركة التجنيد العثماني، من خلال سير المسندين من بلدة إلى أخرى.
منح القارئ فرصة للتخييل المكاني، ومعايشة تنقل رشيد من قرية إلى أخرى، حتى يصل المكان الهدف. -بعلبك ودمشق. الأماكن في الرّواية ليست مجرد نقاط على الخريطة، بل هي حاضنة للذكريات والانتماء؛ فالكاتب يتعامل مع كل قرية كأنها كائن حي يحمل مشاعر وأصوات ومصائر. من خلال هذا التعدد المكاني، نرى كيف أن القرى الصغيرة جزء من مأساة كبرى، فكل اسم يحمل خلفه قصة، وعائلة، وانتظارًا. رحلة رشيد من قريته إلى مدينة دمشق تمثل رمزًا لانتقال الفتى من الطفولة إلى الرّجولة، من الأمان إلى المجهول، من الخاص إلى العام.
دمشق ليست مجرد محطة، بل هي رمز حضاري وتاريخي وديني، وبلوغها في نهاية الرّواية يُضفي على الرحلة بعدًا شبه أسطوري، أو مصيرًا حتميًا. يمكن اعتبار هذا النمط أقرب إلى الأسلوب التسجيلي أو الوثائقي داخل الرواية الأدبية، وقد استخدمه الكاتب: لتكريس الواقعية في السرد