هكذا يكون المرء كاتبا
دخل مكاتب الصحيفة دون أن يقرع بابها. دخل إليّ في غُرفة المحرّر الادبي. أطل مِن عينيه عتب كبير وهو يسألني عن سبب عدم نشري مادته الأدبية الأخيرة. كان هذا الداخل إليّ واحدًا من اصدقائي الباحثين عن ذواتهم، فقد حاول الموسيقى والغناء وبعده الفنّ التشكيلي، كما حاول الكتابة الأدبية. في البداية صوّبت مادته المقدّمة إلي ونشرتها. بعدها جاء إلي بمادة أخرى، فصوبتها ونشرتها.
في الأسبوع الثالث، جاء وقدّم مادة أخرى وغادر. تناولت تلك المادة وشرعت في اجراء التعديلات اللازمة. وبينما انا أقوم بتلك المهمة الصعبة/ تصويب تلك المادة، اقترب منّي صاحب الصحيفة، وعندما تبيّن له أنني أُعد ما قدّمه إلي ذلك الصديق لنشره، قال لي دعنا منه.. هذا ليس كاتبًا. لقد قرأت ما نشرته له في العددين الماضيين، واختصر قائلًا دعنا منه. عندما لاحظ ذلك الصديق انني لم أقدّم له ردًا أيًا كان على عدم نشري مادته تلك، عاد يكرّر سؤاله عن عدم نشري لها، وعندما أصررت على صمتي، قال بعتب كبير.. لماذا لا تفتح لي المجال لتجريب الكتابة الأدبية.. وأرسل نظرة إلى البعيد.. ساعدني فهي قد تكون ضربة نرد رابحة.
أردت أن أقول له إن الادب ليس ضربة نرد، قد تربح وقد تخسر، وإنما هو نتاج لجهد نفسي واجتماعي كبير، وإن الكاتب لا يُضحي كاتبًا بين ليلةٍ وضحاها، أو بالمصادفة وإنما هو يُحقّق ذاته بالتعب والجهد وسهر الليالي. غير أنني بقيت مُحافظًا على صمتي. أما ذلك الداخل إلي في مكتب المحرّر الادبي، فقد خرج مقطّبًا حانقًا، ولم يعد إلى محاولته تجريب ما اطلق عليه ضربة نرد أدبية.
حاليًا.. في هذه الفترة، لم يعد ذاك الداخل إليّ والكثيرون.. الكثيرون من أمثاله، بحاجة إلى صحيفة ورقية، يعمل فيها مُحرّر أدبي، ولا إلى صاحب صحيفة يقبل بنشر موادهم على مضض حينًا، ويرفض أحيانًا، فقد فتحت وسائل الاتصال الاجتماعي الأبواب على أوسع ما يمكن أن تُفتح، وبات بإمكان مَن يعرف ومَن لا يعرف، أن ينشر كلّ ما يعنُّ له ويخطر في باله من تُرّهات، وكلام فارغ، كما بات بإمكانه أن يجنّد عددًا مِن أصدقائه ومعارفه لأن يشيدوا به وبكتابته "الخارقة"، ناسيًا أو متناسيًا بالأحرى، أن طريق الابداع الادبي قد يكون من أصعب الطُرق التي يمكن للإنسان أن يسلك فيها، ذلك أن الابداع عامةً والابداع الادبي خاصةً يحتاج إلى الدراسة والاطلاع، ولا يمكن لأيٍّ مِن الناس التعاطي به ومعه بسهولة.
فمن المعروف أن الكتابة لا تأتي عفو الخاطر، وإنما هي تقوم وتتأسس في ثقافة واطلاع عميقين، على التُراث الثقافي السابق، كون مَن يكتُب ليس نسيجَ وَحده وإنما هو استمرار لسابقين مُتفوّقين ومُجلّين في المجال.
لقد أظهرت السير الذاتية للمبدعين في كلّ المجالات الإبداعية، خاصة الأدبية، أن سُلّم الادب والشعر تحديدًا، صعب وطويل سُلّمه، كما قال شاعرنا العربي القديم الحطيئة، ومَن يطلع على سيَر معظم الكتّاب المبدعين في عالمنا القديم والمعاصر أيضا، لا بُدّ له من أن يلاحظ إلى تلك المُعانيات التي خاضها اولئك مِن أجل أن يكونوا كُتّابًا ومبدعين حقيقيين.
لنأخذ مثالًا مِن الكاتب الأمريكي إرسيكن كالدول، صاحب رواية قطعة ارض الله الصغيرة، وصاحب القصص القصيرة الشهيرة، التي تحوّل العديد منها، إلى أفلام سينمائية شاهدها الملايين من الناس، في مختلف انحاء العالم. لنأخذ تجربة هذا الكاتب كما سجّلها في كتابه الموسوم بعنوان "كيف أصبحت كاتبًا؟"، بترجمة الكاتب الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين أو بعنوان " اسمها خبرة"، بترجمة الكاتب العراقي علي القاسمي، لنتمعّن معًا في هذا الكتاب ولنلاحظ إلى المعاناة التي عاشها هذا الكاتب كي يحقّق حُلمه في أن يكون كاتبًا معترفًا به، ومما يرد في هذا الكتاب/ السيري، نسبة إلى السيرة، أن صاحبه، ارسكين كالدول، كان يضطر للتنقّل من بيت مستأجر إلى بيت آخر، بعد أن يعافَه مؤجر هذا البيت أو ذاك له، لكثرة ما تتسبّب به آلته الكاتبة من ازعاج تواصل طوال الليل وآناء النهار.
لنتمعّن في تلك المُعاناة التي دفعت صاحبها لأن يخصّص كلّ ما يملكه من نُقود قليلة لشراء طوابع الارسال البريدي، لأنه كان يحتاج إلى الكثير منها، فهو يرسل قصته إلى ست أو سبع مجلّات، فإذا رفضتها مُجتمعةً، قام بمحاكمتها وتقديمها إلى منصة الاعدام، أما إذا كانت تَرضى بنشرِها إحدى المجلات، فقد كان يعتبر تلك خطوة موفقة في طريقة الادبي الصعب. اقرأوا هذا الكتاب.
صحيح أن الدنيا تغيّرت وتبدّلت في العشرات الأخيرة من السنين الماضية، وصحيح ان أحدًا ليس مخوّلًا لمنع هذا أو ذاك من ممارسة حقّه في القول والتعبير، فلم يكن الامر كذلك، لا في الماضي ولا في الحاضر، بيد أنّ ما نُودُّ قولَه هو أن الحياة تتغير وأن مياهها دائمة السيولة، على حدّ تعبير عالِم الاجتماع البولندي المقروء عالميًا، في جُماع مؤلفاته التي تمّت ترجمتُها إلى العديد من اللغات منها العربية.
كلّ هذا صحيح، لكن الاصح منه ألا يتحوّل الابداع بصورة خاصة، إلى حيّز لعبث العابثين، وللحمقى والتافهين، على حدّ تعبير الكاتب السيميائي الإيطالي اومبرتو ايكو، صاحب اسم الوردة. أؤكّد في النهاية أنه يوجد هناك فرقٌ كبيرٌ بينَ الحرية التي يتطلّبها الابداع في كلّ مجالاته، وبين الفوضى الهدّامة التي يتبنّاها البعض، لا أقول الكلّ.. عندما يرون أن الابداع الادبي، يمكن أن يكون ضربة نرد، قد تُخطئ وقد تُصبب، علمًا ان الابداع الادبي خاصة، كما أثبت التاريخ حتى هذه الأيام، لا يمكن أن يكون حقًا وحقيقةً، إلا وليدًا حقيقيًا وأصيلًا للإرادة والتصميم.