هل تسعى اسرائيل لاستبعاد الدور المصري الوازن في المفاوضات؟
على مدى أشهر، يشغل تكثيف تواجد الجيش المصري في سيناء وتدريباته المؤسسة الإسرائيلية الرسمية والاعلام ومراكز الابحاث المركزية. هناك اعتراف بأن مصر تقوم بهذه الخطوات بتبليغ مسبق للجنة المصرية الاسرائيلية الامريكية المشرفة على الملحقات الامنية لاتفاقية كامب ديفيد 1979. تشير التقديرات الاسرائيلية بالمجمل الى ثبات اتفاقات كامب ديفيد، وفي المقابل الى التوتر المتزايد في العلاقات بين البلدين والذي تعتبره مخفيا. في موضوع الصفة والمفاوضات يزداد الغضب المصري وكذلك الاحباط من الموقف الاسرائيلي المعني بعدم إبرام صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب. إذ ترى اسرائيل بأنها تحظى بالضوء الاخضر الامريكي في مواصلة عدوانها.
في اعقاب ما تعتبره إسرائيل انجازات على الجبهتين اللبنانية والسورية وكذلك مقابل إيران واستراتيجية "وحدة الساحات" او طوق النار، تكثر المؤشرات بأن المسعى الاسرائيلي الحالي هو تعزيز وضعيتها الاقليمية التي تآكلت ومحاولة استعادة قوة ردعها وزيادة نفوذها في المنطقة. بناء عليه تسعى الى تحييد الدول والقوى التي ترى بها معوّقة والى اصطفافات جديدة اقليميا تتماشى مع المستجدات المذكورة. يسعى نتنياهو الى ملاءمة سياساته وادارته، بما يكسب رضى ودعم ترامب، كما ينظر نتنياهو وحكومته الى كل موقف امريكي دون سقف الفرض الملزم والعلني بوقف فوري للحرب بأنه بمثابة ضوء أخضر لمواصلة الحرب وتكثيفها تجويعا وتطهيرا عرقيا.
في سياساتها الاقليمية الراهنة تسعى اسرائيل الى تفضيل الاتفاقات الامنية لا السياسية التي يمكن ان تفضي الى استحقاقات متمثلة اما بالانسحاب حيث تحتل او اعترافا بدولة فلسطين. وبما ان الاولوية للاتفاقات الامنية التي تخدم الهدف العسكري الاسرائيلي بامتياز، كما في سوريا ولبنان وغزة (فلسطين)، فإنها تسعى الى تفضيل نمط الاتفاقات الإبراهيمية والتي في جوهرها تعاون أمنى واستراتيجي دون الاستحقاقات المذكورة، على نمط اتفاقات التطبيع التي تشمل ترسيم حدود وتخلي عن اطماع وكل طرف فيها يمتلك السيادة على قراره السياسي والامني.
بالإمكان الاشارة الى محفزات اسرائيل وسعيها الى اضعاف محورية الدور المصري في الصفقة بأنها مرتبطة بالأمور التالية؛ لان لمصر مصلحة امن قومي لا تستطيع اسرائيل تجاوزها؛ ولان المقاربات الاقليمية بدأت تختلف بالنسبة لإسرائيل وتفكك محور ايران سوريا حزب الله؛ ولأن اسرائيل لا تريد الابقاء على فلسطينيين في القطاع لكنها ترى كما ادارة ترامب بأن مصر هي المعوّق؛ ولكون اي مسعى لتغيير جغرافية قطاع غزة تتعارض جوهريا مع الامن القومي المصري؛ ولأن حكومة نتنياهو تسعى لإضعاف المحور المصري السعودي الاردني نظرا لاستحقاقات ما يطرحونه من تصورات لليوم التالي ومن حل لقضية فلسطين.
هناك تأكيدات اسرائيلية اعلامية لكن مستندة الى مصادر رسمية رفيعة تؤكد ان اسرائيل معنية بتغيير إطار المفاوضات بما فيه الدولتين الوسيطتين اي مصر وقطر بكلٍّ من دولتي الامارات وتركيا.
يشكل هذا التوجه مسعى اسرائيليا تمهيديا لمفاوضات ما يسمى “اليوم التالي”، فحكومة نتنياهو معنية بتقويض المسعى المصري الاساس في هذا الصدد وهو ما انعكس في مخرجات قمة القاهرة الاستثنائية بشأن اعادة اعمار غزة وادارتها عربيا ودوليا وبمشاركة السلطة الفلسطينية، وتقوم مصر حاليا بتدريب قوات امن فلسطينية مستقبلية فيها اعتماد لقوات السلطة الفلسطينية، وتبدو بضوء احضر امريكي. اي ان اسرائيل تريد وسطاء لإعادة الاعمار مختلفين عن وسطاء الصفقة ووقف إطلاق النار.
رغم التوترات العلنية مع تركيا سواء في الملف السوري او تصريح نتنياهو مؤخرا عن اعترافه بإبادة الارمن ودون اتخاذ قرار حكومي ملزم بذلك، فإن العلاقات بين البلدين فيها تعاون واسع رغم التوترات العلنية الدائمة الجوهرية منها والأقل جوهرية. ثم ان اعتبارات نتنياهو ان العلاقات مع تركيا كدولة وسيطة فيما لو تحقق ذلك، فيها تداخل لعدة ملفات ممكن المقايضة فيما بينها في كل من سوريا ولبنان وغزة.
فيما اسرائيل بقيادة نتنياهو أيضا ليست معنية بالمملكة العربية السعودية وسيطا حول “اليوم التالي”، وذلك لكون السعودية تقود مسارا دوليا للاعتراف بدولة فلسطين وللدفع نحو اقامتها فعليا. وعليه فإنها كما مصر لن تقبل بالفصل بين مصير الضفة والقطاع، كما انها تدعم مخرجات قمة القاهرة الاستثنائية لإعادة الاعمار، ثم ان لها وزن مؤثر على الموقف الامريكي تخشاه حكومة نتنياهو. ثم ان نتنياهو يتحاشى على الأقل راهنا التطبيع مع السعودية من منطلقات اسرائيلية وعقائدية نظرا لاستحقاقات ذلك على مصير غزة والضفة على السواء.
ما يزيد التوتر مع مصر هو ما تؤكده صحيفة “يسرائيل هيوم” 26/8/2025 بأن القوات المصرية ستكون بعتادها التام وتنتشر على طول الحدود مع غزة وذلك ضمن القلق المصري من “تهديدات حقيقية على الحدود”، في حال تواصل عملية اعادة احتلال غزة المدينة وتدفع اسرائيل بنحو نصف مليون فلسطيني جنوبا حيث الكثافة هائلة في المواصي” وتقوم بتهجيرهم عبر الاراضي المصرية في سيناء. فيما يرى دان بن بسات في معريف 16/8 بأن المسعى المصري هو ابعد من الدفاعي، بل يشكل ورقة ضغط استراتيجية على اسرائيل عند الضرورة، في المقابل يشير الى العلاقات المركبة بين البلدين اذ مقابل التوتر أمنيا فهناك اتفاقية الغاز التي جددت مؤخرا وتؤكد ان الاساس لمنع التدهور الشامل لا يزال قويا ما لم يمس الامن القومي المصري. فيما التوجه الإسرائيلي لإبقاء السيطرة على محور فيلادلفي يأتي ايضا كورقة ضغط على مصر وفقا للمصادر ذاتها.
يربط الباحثان في الجمعية الاسرائيلية لدراسات الشرق الاوسط والاسلام (ايلما) بوعاز شمطوب وبوريس غورليك بين قيام الامن المصري بتدريب خمسة الاف فلسطيني معظمهم وفقا للمصدر من اجهزة السلطة الفلسطينية على ان يضاعف عددهم ويقوموا لاحقا بدور شرطي في غزة، مما يدفع الى تصلب في موقف حماس في مسألة تسليم السلاح مقابل تصلب أقل في مسالة التنازل عن السلطة المدنية في غزة.
كل ذلك مع تطور اخر وهو والمشروع الاماراتي المخطط والمعنية به اسرائيل في تحلية مياه البحر ومد خط انابيب بطول 6.7 كم من الاراضي المصرية الى المواصي وعبر شارع الرشيد الساحلي. فيما يرى الباحثان بأنها “مبادرة مباركة وتشكل سابقة مهمة لفصل قطاع غزة عن اسرائيل في اليوم التالي”.
الا ان حكومة نتنياهو ليست معنية بإعلان تصورها لليوم التالي للحرب، لكنها لا تستطيع تجاهله نظرا للموقف الامريكي الداعم اسرائيليا لكن الذي يتحدث عن انهاء الحرب ما بين اسابيع حسب ترامب وحتى نهاية العام وفقا لويتكوف. والحديث اسرائيليا لحد الان هو حول خطوطها الحمراء كما توردها جزئيا المحللة السياسية المختصة بالشأن العربي سمدار بيري، وهي عدم الانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، بل الابقاء على مواقع تحكم وعلى المنطقة العازلة وعلى محور صلاح الدين/فيلادلفي من جانبه الفلسطيني، كما لا تقبل حكومة نتنياهو بحكم السلطة الفلسطينية والتي تعزز الربط الكياني بين الضفة والقطاع كأساس لدولة فلسطينية يرفضها نتنياهو.
كما أن نتنياهو يريد حلا أمنيا في غزة يتحكم به كما في لبنان وسوريا، وهو ما يبدو مقبولا على ادارة ترامب التي تسعى لإحباط المساعي الدولية للاعتراف بفلسطين حتى ولو تطلب الامر من الادارة ومن حكومة نتنياهو اضعاف السلطة الفلسطينية وصولا الى تقويضها او اعلان بسط السيادة الاسرائيلية الاحتلالية في مناطقة اضافية في الضفة الغربية وحصريا الأغوار والخان الاحمر. بهذه الخطوات ايضا يعزز نتنياهو ائتلافه الحاكم والذي يرى الضفة الغربية تفوق أهمية في نظر اقصى اليمين قطاع غزة. وفي حال اضطر الى قبول الصفقة وحتى انهاء الحرب بشروطه الامنية في غزة فإنه يكسب بسط السيادة في الضفة سعيا لمنع قيام دولة فلسطينية مستقبلا ولإنهاء قضية فلسطين وفقا لنواياه.
يدرك نتنياهو ان موقع مصر عربيا ودوليا يؤهلها لان تلعب دور الوسيط في اية صفقة تبادل تخص غزة، حتى الان لم تحصل اية صفقة تبادل في هذا الصدد دونما الدور المصري المحوري والحيوي والمطلوب اسرائيليا. فيما ترى تقديرات عدة بأنه لا يمكن تجاوز دور مصر في “اليوم التالي” بل أن مصر باتت تتجاوز الوتيرة الاسرائيلية ولا تنتظر قرارات نتنياهو. في هذا الصدد تساءلت صحيفة معاريف 28/8؛ هل تعرف اسرائيل بأن مصر قد قررت ان تقود “اليوم التالي” في غزة؟، وتحيل الصحيفة الجواب الى قمة القاهرة الاستثنائية والى اعلان العديد من الدول العربية في تموز/يوليو هذا الصيف “بأن حماس لا يمكنها حكم غزة في اليوم التالي” وأضافت بأن جميع هذه الدول متوافقة على “وجوب الابقاء على دور السلطة الفلسطينية في المشروع”، وفي هذا السياق يندرج تدريب مصر للقوات الفلسطينية.
يضيف ميخائيل ميلشتاين من معهد دايان (موقع واينت 29/8/2025) بعدا آخر في تعقيدات العلاقات ولا يرى بأنها قد تتدهور. لكنه يعتقد بأن اسرائيل تحاول حل مشاكلها في غزة على حساب مصر، ويبرر القلق المصري من النوايا الاسرائيلية ويشير الى تصريحات الوزيرة غيلا غمليئيل من الليكود الداعية الى "اقامة دولة فلسطينية في سيناء" ومخطط "المدينة الانسانية"، فيما يقدر ميلشتاين بأن القلق المصري هو نتيجة التشكيك في نوايا ترامب والذي بخلاف الانطباع الاسرائيلي فإن المصريين يخشون من ان الرئيس الامريكي لم يتنازل حقيقةً عن مشروعه بالتهجير والاستحواذ على غزة. كما يلفت الباحث النظر الى الخشية المصرية وفقا له من "اهتمام ترامب بالصراع بين مصر وأثيوبيا على مياه النيل، والخشية من تدخله كوسيط مقابل تطبيق تهجير اهالي غزة"
يشير ميلشتاين الى مصدر توتر رئيسي اخر في العلاقات بين البلدين وهو الشكوك المصرية بتلاقي المصالح بين إسرائيل والاخوان المسلمين في مصر بوصف الاخيرين وفقا للتقديرات معنيين بإضعاف النظام وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار مما يتيح لإسرائيل ابتزاز مصر، يعتبر الباحث ان هذا العامل قوي التأثير ويندرج في اعتبارات الامن القومي المصري الاكثر حيوية. يتفق مع هذا التقدير حاييم كورن السفير الاسرائيلي السابق لدى القاهرة والذي يلقي على حكومة نتنياهو مسؤولية توتير العلاقات.
وفقا له "لا يوجد تواصل موثوق ودائم بين القيادتين" ثم يشير الى أن القيادة الاسرائيلية "لا تدرك كنه هذا التوتر، وليس هناك من مسؤول بإمكانه التواصل مع القيادة المصرية والتهدئة من روعها"
في الخلاصة تؤكد مساعي اسرائيل لاستبدال الوسطاء وللإقلال من الوزن المصري على محورية الدور اقليميا ودوليا، باعتباره معوّقا لتمرير المخططات الاسرائيلية وحصريا التهجير وتغيير جغرافية قطاع غزة.
كما و تأتي المساعي الاسرائيلية لاستبدال الوسطاء نظرا لكونها تريد استبعاد اي حل سياسي او إعادة اعمار غزة وفرض حلول أمنية تضمن هيمنتها. رغما عن ذلك، لا توجد اية مؤشرات لاحتمالية نجاح حكومة نتنياهو في مساعيها، ولا حتى استعداد فعلي من الامارات وتركيا لمثل هذه المهمة. كما وترى حكومة نتنياهو بالتوافق المصري السعودي الاردني رادعا اقليميا ودوليا لسياسات التهجير ولاحتلال غزة وللضم في الضفة الغربية.
تؤكد توجهات حكومة نتنياهو نيتها مواصلة التصعيد ومنع حل القضية الفلسطينية ولمتع قيام دولة فلسطينية، ولهذا الغرض تسعى الى اعطاء الاولوية للاتفاقات الإبراهيمية واستبعاد التطبيع في الوقت الراهن نظرا لاستحقاقاته. فيما الاولوية هي الابقاء على المساندة الامريكية في منع قيام دولة فلسطينية ومواجهة حملة الاعترافات الدولية او تبلور مواقف دولية لفرض عقوبات على اسرائيل، وتسعى للاستفادة من الضوء الاخضر الامريكي لمواصلة حرب الإبادة، توخياً لاغتنام اية فرصة قد تسنح للتهجير من غزة.
التوتر المصري الاسرائيلي حقيقي وجوهري حتى وإن لم يهدد الغاء اتفاقات كامب ديفيد، لكن منسوب التوتر مرتبط بمدى تهديد إسرائيل لأسس ومقومات الامن القومي المصري.