القائمة المشتركة: الإسراع في إقامتها ضرورة وطنية
تمرّ الساحة السياسية العربية في الداخل الفلسطيني بمرحلة دقيقة وحساسة، بل يمكن القول إنها من أدق المراحل التي عرفتها منذ سنوات طويلة. فالأوضاع الأمنية والسياسية التي فرضتها الحرب الدموية المستمرة في قطاع غزة، ومحاولات الضمّ الزاحفة في الضفة الغربية، وضغوط المؤسسة الإسرائيلية لإضعاف الصوت العربي وتهميشه، جعلت من الضروري إعادة النظر في البنية السياسية العربية داخل إسرائيل. في مثل هذا الواقع، تصبح الحاجة إلى إطار سياسي وحدوي جامع ليست خيارًا إضافيًا أو ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية وجودية، لضمان حماية مصالح الجماهير العربية وصون حقوقها وتعزيز مكانتها وتأثيرها.
لقد شهد يوم الأحد 31 آب/أغسطس اجتماعًا ضمّ الأحزاب العربية الثلاثة: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، حزب التجمع الوطني الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير، إضافة إلى مندوب عن القائمة الموحدة. ورغم أن الاجتماع جاء بطابع رمزي أكثر منه عملي، إلا أنه حمل في طياته رسالة مهمة للشارع العربي، مفادها أنّ فكرة الوحدة لا تزال ممكنة، وأنّ الأبواب لم تُغلق بعد أمام إعادة إحياء القائمة المشتركة.
لكن سرعان ما ظهر أنّ الخلافات العميقة، خصوصًا مع القائمة الموحدة، تُعرقل هذا المسار. فالموحدة تماطل في تقديم رؤيتها السياسية، وتؤجل حسم موقفها، في وقت يتطلب الواقع السياسي سرعة في اتخاذ القرارات. والأهم من ذلك، أنّ استراتيجية الموحدة تختلف اختلافًا جذريًا عن استراتيجيات الأحزاب الثلاثة الأخرى، إذ إنها تسعى إلى خوض الانتخابات بشكل منفرد ضمن ما يُسمى بـ"القائمة التقنية"، مع إبقاء الباب مفتوحًا لاحقًا للتحالف مع أي حكومة إسرائيلية، حتى لو كانت يمينية وصهيونية.
هذا التوجه يثير الكثير من القلق والانتقاد، لأنه يقوم على منطق تحقيق مكاسب مادية وخدماتية محدودة للجمهور العربي، دون النظر إلى الصورة الأوسع المتمثلة في البنية التمييزية العميقة التي يعاني منها العرب في هذه البلاد. وبذلك، فإنّ دمج الموحدة في أي إطار وحدوي بات شبه مستحيل، لأنّ رؤيتها السياسية لا تنسجم مع الرؤية الوطنية الجامعة التي تسعى الجبهة والتجمع والعربية للتغيير إلى صياغتها.
وعليه، فإنّ المسؤولية التاريخية تقع اليوم على عاتق هذه الأحزاب الثلاثة، كي تتحرك بسرعة، وتعلن دون أي تردد عن إقامة قائمة مشتركة جديدة، بعيدًا عن حسابات الموحدة. فالتجارب الانتخابية السابقة أثبتت أنّ وحدة الصف العربي منحت الجماهير قوة انتخابية هائلة، وأظهرت للعالم صورة واضحة عن تماسك الموقف السياسي العربي في الداخل. على العكس من ذلك، فإنّ التردد والتأجيل يؤديان إلى تراجع الثقة الشعبية، ويُفاقمان حالة الإحباط والعزوف عن صناديق الاقتراع.
لكن إقامة قائمة مشتركة لا ينبغي أن تكون مجرد عملية تجميع للأحزاب الثلاثة، بل يجب أن تترافق مع إصلاحات جذرية وعميقة داخل هذه الأحزاب، تعكس طموحات الجماهير وتستجيب لمتطلبات المرحلة. ومن أبرز هذه الإصلاحات:
الانفتاح على المجتمع المدني العربي، بمؤسساته وحركاته ونخبه، لضمان شراكة واسعة في صياغة القرار السياسي.
استقطاب طاقات شبابية جديدة تحمل فكرًا متجددًا، وتتمتع بالقدرة على التواصل مع الجيل الجديد من الناخبين.
إحداث تغييرات حقيقية في القيادة السياسية لهذه الأحزاب، بما يشمل إعادة النظر في الصفوف الأولى، وإفساح المجال أمام وجوه جديدة ذات كفاءة وخبرة.
تعزيز التواصل المباشر مع الجمهور العربي في المدن والقرى، بما يخلق شعورًا بالشراكة والانتماء ويعيد ثقة الشارع بالعمل السياسي.
إنّ الفرصة المتاحة أمام الجبهة والتجمع والعربية للتغيير اليوم هي فرصة تاريخية نادرة. فإعلان قائمة مشتركة ثلاثية قبل انتهاء الحرب على غزة، سيحمل رسالة قوية إلى الجماهير العربية وإلى المؤسسة الإسرائيلية في آن واحد: رسالة مفادها أنّ العرب في الداخل موحدون، يتحملون مسؤوليتهم الوطنية، ويضعون المصلحة العامة فوق أي اعتبارات فئوية أو حزبية.
الوحدة ليست مجرد شعار انتخابي، بل هي أداة قوة، ووسيلة دفاع، وجسر أمل نحو مستقبل سياسي أكثر عدلًا وكرامة للعرب في هذه البلاد. ومن دون هذه الوحدة، سيبقى الصوت العربي عرضة للتهميش والتفتيت.
إنّ المطلوب اليوم هو قرار شجاع من قيادات الجبهة والتجمع والعربية للتغيير، قرار يضع حدًا للمماطلة والتردد، ويعيد الاعتبار لفكرة العمل السياسي العربي الوحدوي. هذه ليست مسألة مقاعد في الكنيست فقط، بل هي قضية وجود وحضور وكرامة لجماهير عربية كاملة تبحث عن من يمثلها بصدق وقوة.
وبكلمة واحدة: الإسراع في إقامة القائمة المشتركة الثلاثية هو استحقاق وطني عاجل لا يحتمل التأجيل.