أثر الكتابة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي على الأجناس الأدبية: بين التحول والتحدي
لقد شكّل دخول الكتابة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي منعطفًا جوهريًا في تاريخ الأدب، إذ لم يعد النص الأدبي أسير الورق، ولا القارئ رهين القاعة الأكاديمية أو الصالون الثقافي، بل أصبحنا إزاء فضاء مفتوح تتداخل فيه اللغة والصورة والصوت والفيديو والرموز التعبيرية و"الهاشتاغات"، ليولد من هذه التوليفة شكل جديد من الأجناس الأدبية لم يكن مألوفًا من قبل. هذا التحول ليس حدثًا عابرًا، وإنما هو انعكاس مباشر للثورة التكنولوجية والرقمية التي اجتاحت العالم، وأثّرت في كل مظاهر الحياة الإنسانية، ومن الطبيعي أن يكون الأدب من أبرز ميادين هذا التحول، لأنه أكثر الفنون التصاقًا باللغة والخيال والذاكرة الجمعية. وإذا كان الأدب في السابق قد عرف تحولات عميقة مع اختراع الطباعة، فإنّ الرقمنة ووسائط التواصل جاءت لتشكل "ثورة ثانية" في طرائق الإبداع والتلقي معًا، بحيث أصبح النصّ الأدبي نفسه موضوعًا للتجريب وإعادة التشكل، وتحوّل القارئ من متلق سلبي إلى شريك في البناء النصيّ.
إنّ الحديث عن أثر الكتابة الرقمية ووسائط التواصل على الأجناس الأدبية يتطلب أن نعود أولًا إلى مفهوم "النصّ الرقمي" بوصفه نصًا يُنشأ ويُتلقى في بيئة رقمية، ويستفيد من إمكاناتها التقنية مثل التشعب والروابط والوسائط المتعددة والتفاعلية (أسليم، 2012، ص103). فالنصّ لم يعد يُقرأ من بداية إلى نهاية على نحو خطي، بل صار في كثير من الحالات نصًا مفرّعًا (Hypertext) يتيح للقارئ أن يختار مساره الخاص، وأن يعيد بناء النص حسب تفضيلاته (الخطيب ومحمد، 2001، ص50). وهذا التحول في بنية النص قاد إلى ظهور ما يعرف بالأدب التفاعلي، وهو أدب لا يكتفي بعرض الحكاية أو الشعر أو المقال، وإنما يمنح القارئ دورًا فاعلًا في التشكيل من خلال النقر والاختيار والربط (البريكي، 2006، ص49؛ سناجلة، 2003، ص60–66).
من رحم هذا التفاعل ولدت أجناس أدبية جديدة مثل "التويتر-أدب" أو Twitterature، وهو نص أدبي يُكتب على شكل تغريدة لا تتجاوز 280 حرفًا، لكنه يستوعب قصة أو مقطعًا شعريًا أو فكرة فلسفية مركّزة. وقد أدى هذا إلى انفتاح الأدب على أشكال الإيجاز والتكثيف التي لم تكن شائعة في الرواية أو القصيدة الطويلة. ولعل ما يلفت الانتباه أن التويتر-أدب سرعان ما أصبح مجالًا لملايين الكتّاب الذين لم تُتح لهم منابر النشر التقليدية، مما جعله يمثل ديمقراطية جديدة في الكتابة والنشر. وبالموازاة مع ذلك، نشأ ما يعرف بـ "إنستا- شعر" Instapoetry، وهو شعر يُنشر على منصة إنستغرام ممزوجًا بالصور أو الخطوط البصرية الجاذبة، وقد حقق هذا النمط رواجًا عالميًا حتى صار بعض كتّابه من أكثر الشعراء مبيعًا. كما برز أيضًا "الأدب البديل " Alt-lit (Alternative literature) بوصفه حركة شبابية تنشر نصوصًا متأثرة بثقافة الإنترنت، وتعتمد على التوزيع الرقمي والتفاعل اللحظي مع القارئ
أما الرواية الرقمية أو التفاعلية، فهي شكل أكثر تعقيدًا من التجريب، حيث تدمج بين السرد المكتوب والروابط التشعبية والموسيقى التصويرية والفيديوهات والصور، بحيث تتحول عملية القراءة إلى تجربة متعددة الوسائط. وقد ناقش محمد سناجلة ( سناجلة، 2003 ، ص62) هذه النقطة باعتبارها انتقالًا من "الرواية الورقية" إلى "الرواية الواقعية الرقمية"، التي تمنح القارئ أكثر من مسار وأكثر من نهاية محتملة. وبذلك يصبح النص الأدبي في العصر الرقمي "عملية مفتوحة" لا تنغلق عند حدود ما كتبه المؤلف، بل تتوسع باستمرار عبر تفاعل القارئ ومشاركته.
هذا التحول انعكس أيضًا على مفهوم القراءة ذاته. ففي زمن الورق كانت القراءة نشاطًا خطيًا يتطلب وقتًا وجهدًا وهدوءً، بينما أصبحت اليوم قراءة متناثرة وسريعة بفعل "السوشيال ميديا". منصات مثل TikTok وInstagram وWattpad غيرت طبيعة النصوص التي يقبل عليها الشباب، حيث ازدهرت القصة القصيرة جدًا، والخواطر، والـ fan fiction، والشعر المصور. ومع ذلك، فإن هذه التحولات لم تؤدِ إلى موت الكتاب التقليدي كما قد يظن البعض، بل بالعكس، فقد نشأت مجتمعات افتراضية مثل BookTok التي جعلت من مراجعة الكتب وتوصيتها نشاطًا جماهيريًا عالميًا، وأدت إلى زيادة مبيعات الروايات الكلاسيكية والمعاصرة على حد سواء. وهكذا نلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي قد حولت القارئ من متلقٍ صامت إلى فاعل مؤثر في صناعة الذائقة الأدبية وتوجيه السوق.
لكن، على الجانب الآخر، يثير هذا التحول أسئلة جدية حول عمق التجربة الأدبية وجودتها. فالكتابة المكثفة على تويتر أو إنستغرام قد تفتقر في أحيان كثيرة إلى العمق الفني والجمالي، وتغلب عليها النزعة السطحية والبحث عن الانتشار السريع، مما جعل بعض النقاد يحذرون من "تسليع الأدب" وتحويله إلى مجرد محتوى رقمي قابل للاستهلاك. يضاف إلى ذلك أن القراءة الرقمية كثيرًا ما تُتهم بأنها تؤدي إلى تراجع القدرة على التركيز والقراءة العميقة، لصالح التصفح السريع والتنقل بين الروابط. ومن هنا يبرز السؤال: هل نحن أمام إغناء للأدب أم إفقار له؟ الإجابة لا تبدو حاسمة، لكنها تؤكد أننا أمام تحول لا يمكن إنكاره.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل فرص الابتكار الهائلة التي أتاحتها الرقمنة. فالأدب الرقمي يسمح بمزج الفنون: الموسيقى، الصورة، الفيديو، التشكيل البصري، وهذا يفتح المجال أمام أشكال جديدة من التلقي تناسب جيلًا اعتاد التعددية الحسية. كما أن وسائط التواصل جعلت الأدب أكثر قربًا من الجمهور، حيث يمكن لأي كاتب أن ينشر نصه فورًا ويصل إلى آلاف القراء دون المرور عبر بوابات دور النشر التقليدية (عبد الجواد، 2024، ص628). هذا الانفتاح أوجد مساحات إبداعية مدهشة، وإن كان في الوقت نفسه قد أغرق الساحة بنصوص متفاوتة الجودة.
الأمر اللافت أيضًا هو أن التحول الرقمي غيّر العلاقة بين المؤلف والقارئ، فالمؤلف لم يعد كائنًا منعزلًا يكتب نصه وينتظر رد فعل النقاد، بل صار حاضرًا في التعليقات، يرد ويجادل ويتلقى النقد المباشر. وقد أتاح هذا التفاعل المستمر بناء علاقة جديدة مع النص، لكنها علاقة قد تفرض على الكاتب أحيانًا أن يجاري توقعات الجمهور أو يتأثر بتفضيلاته اللحظية. وهكذا يصبح الأدب محكومًا أحيانًا بمنطق "الإعجابات والمشاركات"، وهو منطق يختلف جذريًا عن معايير النقد الأدبي التقليدي.
ويمكن القول إن الأجناس الأدبية اليوم تعيش حالة "إعادة تشكيل" بفعل الوسيط الرقمي، فالشعر لم يعد مجرد أبيات موزونة أو قصيدة نثرية، بل أصبح نصًا بصريًا وصوتيًا وتفاعليًا؛ والرواية لم تعد نصًا خطيًا بل فضاء مفتوحًا للعب والتجريب؛ والقصة القصيرة جدًا (وميكرو-فيكشن) وجدت في تويتر وفيسبوك أرضًا خصبة للانتشار؛ أما النقد الأدبي فقد وجد نفسه أمام تحدٍ حقيقي لمواكبة هذه التحولات السريعة. هذا يعني أن المستقبل الأدبي سيكون بالضرورة متعدد الأشكال، وأن الحدود التقليدية بين الأجناس قد تذوب لصالح نصوص هجينة يصعب تصنيفها.
إن التحدي الأكبر يكمن في كيفية الموازنة بين سرعة الوسيط الرقمي وعمق التجربة الأدبية. فالتكنولوجيا لا يمكن إيقافها، لكن يبقى السؤال: كيف نضمن أن لا تضيع القيمة الجمالية والفكرية للنصوص وسط زخم المحتوى الرقمي؟ لعل الحل يكمن في تطوير مناهج جديدة للنقد الرقمي، ودراسة أثر الوسيط على النص والقراءة معًا، بما يفتح المجال لوعي نقدي يواكب هذه الثورة ولا يكتفي بالتذمر منها. ومن هنا تأتي أهمية أن تنخرط الجامعات والباحثون في دراسة الأجناس الرقمية، لا بوصفها تهديدًا للأدب، بل بوصفها فرصة لإعادة اكتشافه بوسائط جديدة.
في المحصلة، يمكن القول: إنّ الكتابة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي لم تُلغِ الأجناس الأدبية الكلاسيكية، لكنها بالتأكيد غيّرت طرائق إنتاجها وتلقيها. فهي من جهة فتحت المجال أمام أشكال مبتكرة من الأدب، وأتاحت فرصًا جديدة للشباب والكتّاب المهمشين، ومن جهة أخرى طرحت تحديات حول عمق النص وجودته وطرق استقباله. وبين هذين الوجهين يبقى الأدب في حالة تحول دائم، كما كان عبر التاريخ. وإذا كانت الطباعة قد أحدثت ثورة في عصرها، فإن الرقمنة اليوم تمثل ثورة موازية قد تفتح الطريق نحو مستقبل أدبي مختلف كليًا، مستقبل لا يمكن أن يُفهم أو يُدرس بمعزل عن الوسيط الرقمي الذي صار جزءًا من بنية النص نفسه.
ثبت بالمراجع
أسليم، محمد (2012). النص الرقمي: المفهوم والتجليات. الدار البيضاء: دار الثقافة.
الخطيب، حسام؛ محمد رمضان، عبد (2001). النص المفرّع: مدخل إلى الأدب التشعبي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
البريكي، فاطمة (2006). الأدب التفاعلي: دراسة في الأشكال والنصوص. أبوظبي: مشروع قلم.
سناجلة، محمد (2003). الرواية الواقعية الرقمية. عمان: دار الفكر.
عبد الجواد، ولاء أسعد (2024). "الكتابة الإبداعية في العصر الرقمي: الفرص والتحديات". مجلة كلية الآداب، جامعة أسيوط، المجلد 31، العدد 89، ص 625–668.