تحميل...

استطلاعات الرأي في غزة هل تعبر فعلا عن المزاج العام ؟‎

صفاء أبوشمسية
نُشر: 00:17

لم تعد غزة اليوم كما كانت قبل عامٍ واحد. المدينة التي كانت تُروى عنها حكايات الصمود الأسطوري، أصبحت تبحث عن خلاصٍ من الحروب نفسها. في الشوارع المهدّمة والأسواق التي فقدت لونها وصخبها، يتكوّن وعيٌ جديد، صامت في لغته، لكنه صادق في جوهره: نريد أن نعيش.

بعد سنواتٍ من التكرار الموجع للمشهد ذاته — قصفٌ، نزوحٌ، ووعودٌ مؤجلة — تغيّر شيء في داخل الناس. لم يعد الغزّي يرى في الحرب مجداً ولا في الصبر بطولةً دائمة. لقد أصبح البقاء نفسه شكلاً من أشكال المقاومة، وأصبحت الحياة مطلباً سياسياً بقدر ما هي حقٌّ إنساني. من يراقب اليوم أحاديث الناس في المقاهي المهدّمة أو بين أنقاض البيوت، يدرك أن روح المجتمع تميل إلى إعادة تعريف مفاهيم الشرف والبطولة: فالنصر لم يعد في البقاء تحت القصف، بل في أن يبقى للناس بيتٌ ومدرسةٌ ونافذةٌ على الغد.

هذا التحوّل الهادئ في المزاج العام لا يعني انكساراً، بل بداية مرحلة من الوعي الواقعي؛ وعيٍ يقول إن غزة لا تحتاج بعد الآن إلى مزيد من الشعارات، بل إلى فرصةٍ تُمنح لأبنائها ليعيدوا بناءها كما يشاؤون، لا كما يُراد لهم من الخارج. إنّ أصعب ما في التجربة الغزّية اليوم هو إدراكها أن العالم اعتاد على صورتها كمنطقةٍ منكوبة، وأنها باتت تحتاج إلى استعادة صورتها كمدينةٍ للحياة، لا كرمزٍ للمأساة.

في ملامح الوجوه وأحاديث الناس ما يشي بأن المجتمع يتغيّر بصمت. لم تعد الأسئلة عن من المسؤول، بل عن كيف يمكن البدء من جديد. لم تعد غزة تنادي بالثأر، بل بالعدالة، ولا تطلب التعاطف، بل الكرامة. من داخل هذا الخراب يخرج جيلٌ جديد لا يرفع الرايات، بل يرفع صوته قائلاً: نحن لسنا مشهداً في نشرات الأخبار، نحن بشرٌ يريدون أن يعيشوا بسلام.

وهنا تكمن المفارقة الكبرى: المدينة التي صمدت في وجه الحصار والحروب، تخوض اليوم معركتها الأعمق — معركة استعادة حقها في الحياة الطبيعية، في الأمل، في أن تكون مكاناً يُحب لا يُرثى. وربما تكون هذه المعركة، التي تخلو من الدخان والمدافع، هي الأكثر صدقاً وإنسانيةً في تاريخ غزة الحديث.

النتائج التي أظهرتها استطلاعات الرأي الأخيرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن هذا السياق. فبحسب استطلاع أجراه مركز القدس للإعلام والاتصال (JMCC) في مطلع سبتمبر 2025، عبّر معظم سكان القطاع عن رغبتهم في إنهاء الحرب بشكلٍ نهائي، مؤكدين على أولوية إعادة الإعمار، ورفضهم تكرار “التكتيكات السياسية السابقة” التي لم تثمر سوى المزيد من الدمار. الأهم من ذلك، أن نسبة ملحوظة من المشاركين أبدت عدم رغبتها في استمرار القيادة الحالية للقطاع، مفضّلة نموذجاً جديداً لإدارة الشأن العام.

في موازاة ذلك، كشف استطلاع آخر للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (PSR)، أُجري في الفترة ذاتها، أن 57 % من سكان غزة يعتبرون قرار شن الهجوم في أكتوبر الماضي غير صائب، مقابل 39 % رأوه صائباً. إنها المرة الأولى منذ سنوات طويلة التي تُظهر فيها الأرقام ميلاً واضحاً نحو مراجعة خيارات المواجهة المسلحة، بما يعكس إرهاقاً شعبياً من كلفة الحرب الإنسانية والسياسية، ورغبةً في رؤية شكلٍ مختلف للمقاومة والإدارة.

هذه المؤشرات لا تعني بالضرورة انقلاباً على حماس، لكنها تعبّر عن تآكلٍ تدريجي في شرعية الأداء أكثر منه في شرعية الفكرة. فالمجتمع الغزّي الذي عاش سنواتٍ من الحصار والحروب المتكرّرة، بدأ يربط بين استمرار المعاناة وغياب أفقٍ سياسي واقتصادي واضح. وفي بيئةٍ تُغلق فيها كل النوافذ أمام الناس، يصبح البحث عن بديل سياسي أو إداري شكلاً من أشكال النجاة لا التمرّد.

في المشهد الفلسطيني الأوسع، تمثل هذه التحولات ضغطاً مزدوجاً على الأطراف كافة:

فـالسلطة الفلسطينية تجد في الأرقام فرصةً لإعادة طرح نفسها كخيارٍ بديل لإدارة القطاع، لكنّها تواجه أزمة ثقةٍ عميقة بعد سنواتٍ من الترهل وفقدان التأثير. أما حماس، فهي تدرك أن القاعدة الاجتماعية التي منحتها شرعيتها منذ 2006 لم تعد كما كانت، وأن الحفاظ على السلطة في ظل بيئةٍ من الإحباط والدمار أصعب من انتزاعها بالسلاح قبل عقدين.

وربما لهذا السبب، تُعدّ هذه الاستطلاعات مؤشراً مبكراً على مرحلة إعادة فرز داخل النظام الفلسطيني نفسه: مرحلة قد تُفضي إلى ترتيبات جديدة بين القوى، وربما إلى إدارة انتقالية أو شراكة مؤقتة تُعاد عبرها هندسة السلطة في غزة، بما يتقاطع مع ضغوط عربية ودولية لخلق واقعٍ إداري أكثر استقراراً.

لكنّ ما يلفت فعلاً هو أن هذه التحولات تأتي من داخل المجتمع لا من فوقه. فالغزيون لم يعودوا ينتظرون حلولاً جاهزة، بل بدأوا يقولون بوضوح ما يريدون: أمن، عمل، كهرباء، ووقفٌ نهائي للحرب. خلف هذه المطالب البسيطة تكمن ثورة صامتة في الوعي، تعيد تعريف معنى الصمود، لا كاحتمالٍ للقتال فقط، بل كحقٍّ في الحياة.

قد لا يُحدث هذا التحول تغييراً فورياً في المعادلة السياسية، لكنه بلا شك يرسم ملامح مرحلةٍ جديدة. فغزة التي كانت تُقرأ دائماً من زاوية الفصائل، أصبحت الآن تُفهم من زاوية الناس. ومع كل بيتٍ يُرمَّم، وكل استطلاعٍ يكشف إرادةً بالحياة، تزداد المسافة بين خطاب الحرب وخطاب المستقبل.

 

...