نيلسون مانديلا: القيادة التحررية بين الألم والأمل
نيلسون مانديلا: القيادة التحررية بين الألم والأمل
بقلم: د. غزال أبو ريا
مدير المركز القطري للوساطة
-المقدمة
في عالم يزداد فيه الصراع بين السلطة والحرية، يبرز اسم نيلسون مانديلا كأحد أعظم رموز التحرر الإنساني في القرن العشرين.
لم يكن مانديلا مجرد زعيم سياسي ناهض نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بل كان قائدًا أخلاقيًا وإنسانيًا جسّد فكرة أن التحرر الحقيقي يبدأ من الداخل قبل أن يتحقق في الواقع.
هذا المقال يسعى إلى تحليل المنهج القيادي والتحرري الذي اعتمده مانديلا، واستخلاص الدروس العملية التي يمكن أن تُلهم القيادات والحركات التي تعمل من أجل الحرية والعدالة في عالمنا العربي والعالمي.
-أولًا: التحرر الداخلي شرط للتحرر الخارجي
رأى مانديلا أن الحرية لا تُمنَح، بل تُنتَزع من داخل الإنسان قبل أن تتحقق على أرض الواقع.
ففي سنوات سجنه الطويلة في جزيرة روبن، لم يُحبط أو يستسلم، بل حوّل السجن إلى مدرسة روحية وفكرية لتربية النفس على الانضباط والوعي والصفح.
قال مانديلا:
“أن تكون حرًا لا يعني أن تُلقي عنك القيود فقط، بل أن تحيا بطريقة تحترم حرية الآخرين.”
وهذا المفهوم يجعل من التحرر عملية إنسانية شاملة لا تقتصر على كسر القيود السياسية، بل تشمل تجاوز الغضب والخوف والكراهية.
ثانيًا: الصبر الاستراتيجي كأداة نضال
قضى مانديلا 27 عامًا في السجن، وهي فترة كانت كفيلة بأن تقتل روح أي إنسان، لكنه جعل منها زمنًا لبناء الذات.
فهو أدرك أن التحرر ليس حدثًا، بل مسار طويل يتطلب تهيئة النفوس والمجتمع لتقبّل التغيير.
في عالم سريع الإيقاع، يذكّرنا مانديلا أن القائد الذي يملك قدرة الانتظار الواعي لا يفقد بوصلته مهما طال الطريق.
-ثالثًا: التسامح كقوة استراتيجية
حين خرج مانديلا من السجن عام 1990، اختار طريق المصالحة بدل الانتقام.
كان بإمكانه أن يقود ثورة دموية، لكنه أدرك أن الغضب لا يبني وطنًا.
قال في إحدى خطبه:
“إذا لم أترك مرارتي في السجن، فسأظل سجينها ما حييت.”
تحوّل التسامح لديه إلى أداة سياسية لبناء الوحدة الوطنية، وإلى أساس لثقافة جديدة عنوانها “نحن جميعًا أبناء وطن واحد”.
هذا الدرس بالغ الأهمية للقيادات التحررية المعاصرة، التي تواجه دائمًا إغراء الانتقام، بينما الطريق الحقيقي للتحرر يمرّ عبر المصالحة والعدالة الانتقالية.
-رابعًا: القيادة رؤية لا سلطة
مانديلا أعاد تعريف القيادة من كونها امتلاك القرار إلى كونها امتلاك البصيرة والمسؤولية الأخلاقية.
قال:
“القائد الجيد يشبه الراعي، يسير خلف القطيع أحيانًا، ليتركهم يظنون أنهم يقودون أنفسهم.”
بهذا المعنى، القيادة التحررية عند مانديلا ليست فرضًا للقوة، بل توليدًا للثقة، وإشراكًا للناس في صناعة مصيرهم.
- خامسًا: الحوار طريق التحرر المستدام
في الوقت الذي كان كثيرون يرفضون فكرة التفاوض مع النظام العنصري، اختار مانديلا أن يمدّ الجسور لا أن يهدمها.
اعتبر أن الحوار ليس ضعفًا ولا تنازلًا، بل وسيلة ذكية لإحداث التغيير من الداخل.
من خلال الحوار تمكّن من تجنّب حرب أهلية، وأسس لانتقال سلمي نحو الديمقراطية.
هذا النموذج يصلح اليوم لكل حركة تحرر تبحث عن طرق سلمية واقعية لتحقيق أهدافها دون تدمير المجتمعات.
-سادسًا: التحرر الجماعي لا الفردي
لم يكن حلم مانديلا أن يتحرر هو، بل أن يتحرر شعبه بأكمله.
قال:
“حلمي ليس أن أكون حرًا وحدي، بل أن يعيش شعبي كله في كرامة.”
هذه الرؤية الجماعية جعلت منه زعيمًا تتجاوز مكانته حدود وطنه.
فالتحرر الذي لا يشمل الجماعة يصبح امتيازًا شخصيًا لا ثورة أخلاقية.
- سابعًا: الأمل كطاقة للثبات
كان مانديلا يرى أن الأمل هو آخر الأسلحة التي يجب التخلي عنها.
في أحلك لحظات السجن، كان يقول لرفاقه:
“يبدو الأمر مستحيلاً حتى يتحقق.”
الأمل عنده ليس مشاعر رومانسية، بل قوة سياسية تحمي القائد من الانكسار وتبقي الحلم حيًا في وعي الأمة.
رؤية المركز القطري للوساطة
في رسالة المركز القطري للوساطة للسلم الأهلي وتسوية النزاعات، تتقاطع فلسفة مانديلا مع جوهر عملنا.
فالوساطة ليست مجرد وسيلة لإنهاء خلاف، بل فعل تحرري من دوائر الكراهية والانتقام، وبناء مسار جديد من التفاهم والمصالحة.
كما علّمنا مانديلا أن السلم لا يُفرض بالقوة، بل يُصنع بالثقة والإنصات، كذلك نؤمن في المركز أن الحوار هو الجسر الذي يعيد للأفراد والمجتمعات توازنها الإنساني، ويؤسس لثقافة تعايش وعدالة وسلام.
- دعوة للتسامح: لنتحرر من ثقل الخذلان
حين نتأمل مسيرة نيلسون مانديلا، ندرك أنه لم يكن إنسانًا لم يُؤذَ، بل كان إنسانًا تعلّم كيف لا يجعل الأذى يُفسد قلبه.
كثيرون اليوم يشعرون بأنهم خُذلوا من أقرب الناس، أو ظُلموا في مواقف مؤلمة، وربما يعيشون أسرى للمرارة أو الغضب.
لكن مانديلا يهمس لنا من تجربته:
“التمسك بالغضب يشبه شرب السم وانتظار أن يموت غيرك.”
التسامح لا يعني نسيان الألم، بل تحرير النفس من سلطته.
هو فعل شجاعة لا ضعف، وقرار واعٍ بأننا لا نريد أن نبقى سجناء في قلوبنا.
من يسامح لا يبرر الخطأ، بل يختار أن يواصل الحياة بكرامة وأمل.
فلنستلهم من مانديلا أن الغفران ليس نهاية الطريق، بل بدايته.
من سامح تحرر، ومن تحرر استطاع أن يحب ويصنع سلامًا جديدًا لنفسه ولمجتمعه.
 
               