تحميل...

الطريق إلى الملكية: كيف يُحكم على شبه الديمقراطية الإسرائيلية بالإعدام البطيء

محمد دراوشة
نُشر: 21:34

في لحظة سياسية مشحونة، يقود ائتلاف نتنياهو حملة تشريعية غير مسبوقة، تتضمن ثلاث مبادرات قانونية متزامنة، تبدو في ظاهرها تقنية أو إجرائية، لكنها في جوهرها تعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والدولة، وتؤسس لنظام حكم فردي مطلق، يتجاوز الضوابط المؤسسية، ويقوّض أسس شبه الديمقراطية الإسرائيلية من جذورها.

المبادرة الأولى، الأخطر من حيث تداعياتها، تمنح وزير الأمن القومي أو وزير الدفاع صلاحية تعليق أي محاكمة جارية ضد مسؤول حكومي، بمن فيهم رئيس الوزراء، إذا اعتُبر أن استمرار المحاكمة يشكل خطرًا على أمن الدولة. هذه الصياغة الفضفاضة تفتح الباب أمام استخدام الأمن كذريعة سياسية، وتحول المحاكمة من مسألة قانونية إلى قرار تنفيذي، مما يقوّض مبدأ الفصل بين السلطات ويجعل من المحاسبة القضائية رهينة لتقديرات سياسية. في السياق الحالي، يُنظر إلى هذا القانون كأداة مصممة خصيصاً لوقف محاكمة نتنياهو الجارية بتهم فساد، تحت غطاء “المصلحة الأمنية”، ما يثير مخاوف جدية من تسييس القضاء وتحويله إلى درع واقٍ للحاكم.

المبادرة الثانية تستهدف تفكيك منصب المستشارة القضائية للحكومة، الذي يجمع اليوم بين تقديم المشورة القانونية الملزمة للحكومة وبين رئاسة جهاز النيابة العامة. المقترح الجديد يسعى إلى فصل هذين الدورين، بحيث يُنشأ منصب “مستشار قانوني” يقدم رأيًا غير ملزم، ومنصب “مدعٍ عام” مستقل نظريًا، لكنه قابل للتأثر السياسي في تعيينه وصلاحياته. هذا التعديل يضعف استقلالية الجهاز القضائي، ويمنح الحكومة حرية التصرف دون رقابة قانونية حقيقية، مما يحوّل القانون من أداة لضبط السلطة إلى أداة بيدها. في ظل هذا التغيير، تصبح السلطة التنفيذية غير مقيدة بتوصيات قانونية، ما يفتح المجال أمام قرارات تعسفية دون مساءلة. المعارضة القانونية لهذا الإجراء واسعة، إذ ترى فيه تفكيكًا متعمدًا للضوابط المؤسسية التي تضمن نزاهة الحكم، وتحذّر من أنه سيحوّل المستشار القانوني إلى موظف تابع، لا رقيب مستقل.

أما المبادرة الثالثة، فهي قانون يستهدف رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت بطريقة غير مباشرة، عبر اشتراط تسوية ديون الأحزاب السابقة قبل السماح لأي سياسي بالترشح مجددًا أو تأسيس حزب جديد. ينص القانون على أن أي رئيس حزب سابق ترك حزبه وهو مثقل بالديون، سواء للدولة أو لمزودين خاصين، لا يمكنه العودة إلى الساحة السياسية إلا بعد تسوية تلك الديون بالكامل. ورغم أن القانون لا يذكر بينيت بالاسم، إلا أن توقيته وصياغته يوجهان أصابع الاتهام نحوه، خاصة أن حزبه السابق “يمينا” ترك خلفه ديونًا كبيرة بعد خروجه من الحياة السياسية. هذا القانون لا يهدف إلى تعزيز الشفافية المالية، بل إلى إقصاء سياسيين محددين، منافسين لنتنياهو، عبر أدوات تشريعية، وتحويل البرلمان من ساحة للتعددية إلى أداة لتصفية الحسابات.

هذه المبادرات الثلاث، إذا مرت، ستؤدي إلى تركيز غير مسبوق للسلطة في يد نتنياهو، وتفكيك الضوابط الشبه الديمقراطية التي ميزت النظام الإسرائيلي. ستتحول إسرائيل من دولة ذات مؤسسات مستقلة إلى دولة يحكمها فرد واحد، يملك السلطة التنفيذية، يتحكم بالتشريعية، ويطوّع القضائية. المعارضة ستُقصى بالقانون، والمحاسبة ستُعلّق باسم الأمن، والخصوم سيُمنعون من الترشح باسم “الديون غير المسددة”، والمستشار القانوني سيفقد استقلاليته لصالح الولاء السياسي. في هذه اللحظة، لا يبدو أن نتنياهو يسعى فقط إلى البقاء في الحكم، بل إلى إعادة تعريف الحكم نفسه، ليس كرئيس وزراء، بل كملك فوق الدولة.

ما يجري لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لتحولات سياسية عالمية، حيث تتراجع الديمقراطيات أمام صعود الشعبوية والحكم الفردي. لكن في الحالة الإسرائيلية، فإن الخطر مضاعف، لأن الدولة تأسست على مبدأ التعددية والضوابط المؤسسية، وتحولت إلى نموذج شبه ديمقراطي في مرحلةٍ ما. تمرير هذه القوانين لا يعني فقط تغيير قواعد اللعبة، بل تغيير طبيعة اللعبة نفسها، وتحويل إسرائيل من دولة قانون إلى دولة حاكم، ومن نظام مؤسسات إلى نظام ولاءات. وإذا لم تُواجه هذه التحولات بموقف حازم من داخل المجتمع الإسرائيلي، فإن المستقبل قد يحمل شعاراً جديداً: الله، الملك نتنياهو، الوطن، بالضبط مثل بعض الدول الدكتاتورية المعروفة.

...