تحميل...

الفاعل مرفوع.. قراءة تربويّة

الشيخ عبد الله ادريس- عضو حركة الدعوة والإصلاح

مما درسناه في المدارس ويعرفه الكبير والصغير، أن في اللغة العربية شيئًا يُسمى "الفاعل" وهو الذي غالبًا يصنع الفعل، كما تقول: "أكل أحمد" فأحمد الفاعل لأنه الذي أكل. والجميع يعلم أن في علم النحو يكون الفاعلُ الذي يقوم بالفعل ويصنعه "مرفوعًا" فيقال في إعرابه: فاعل مرفوع. فلماذا؟

ذلك الدرس من هذه اللغة المقدسة، ليس عبثًا، بل هو رسالة تربوية واقعية ما أحوجنا لإعادة النظر فيها من جديد، فقد كان الفاعل مرفوعًا في اللغة ليبث في نفوسنا أن الذي يقوم بالأفعال ويصنع الأشياء ويتحرك في حياته وينتج هو الذي يستحق الرفعة في الدنيا والآخرة، فقد خُلق الإنسان في الدنيا ليستعمر الأرض ويخلف ربنا فيها بالازدهار والتطور والصناعة والحركة والتحصيل، وليس أن يكون عالة على غيره خاملًا كسولًا، بل ليبدع ويبتكر وينتج ويصنع، فإن الصانع مرفوع، والخامل موضوع، فلم تُخلق لتأكل وتشرب وتنام، فإن الله تعالى يقول: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون"  آية 14سورة يونس.

 وكم رفع الإسلام من مكانة الرجل الذي يتحرك ويسعى في تحصيل رزق يطوف به على عياله وأهله فجعله بمنزلة الشهداء عند الله، فقال  الصحابة حينما رأوا رجلًا صاحب جلد وهمة: "لو كان هذا في سبيل الله"، ظنوا أنه ينبغي عليه أن يترك ما هو فيه من تحصيل أرزاق ليستثمر همته وقوته في سبيل نصرة الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: "إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ". رفع الله قدره فجعله من الشهداء وهو يتحرك ويسعى لينتج الرزق الحلال بفضل الله تعالى، ولا يؤثر خموله وكسله على تعبه ليكون عالة يتكفف الناس. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري".

 بل إن الإسلام رفع من مكانة من يتكسب بعرق جبينه، ففي الحديث الصحيح: "أفضل الكسب بيع مبرور وعمل الرجل بيده". فالذي يتحرك ويصنع الأشياء وينتج المال ويفعل الأفعال ويعمل الأعمال هو الذي يُرفع في الدنيا والآخرة. ومن هنا، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يضمن لي أن لا يسأل الناس شيئًا أضمن له الجنة" وليس ذلك إلا لتظل قيمته مرفوعة محترمة بين الناس لا مذلول ولا مُهان. كان الشاعر يقول:

لنقل الصخر من قمم الجبال – أحب إلي من منن الرجال

يقول الناس لي في الكسب عار – فقلت: العار والذل في السؤال

وليست هذه الرفعة على الصعيد الفردي فحسب، بل على صعيد الأمة، فإن الأمة التي تصنع غذاءها ودواءها وسلاحها وصناعتها وحضارتها، هي الأمة التي تُرفع وتستحق أن تُحترم في العالم، كيف لا والله تعالى يقول: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات..." آية 11 سورة المجادلة، فهؤلاء أوتوا العلم ليصنعوا ويزدهروا بحضارتهم وأمتهم، فرفع الله مكانتهم، وإلا فإن من يتعلم لأجل نفسه فحسب ويكتم علمه عن الناس مذموم يُلجم يوم القيامة بلجام من نار. فكم رفع الإسلام مكانة من يدرس القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".  

وكم رفع الإسلام مكانة المبدعين الذين يخترعون سنّة حسنة في المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" دعوة للتفكير والتعقل والابتكار والإبداع، بل هو صلوات ربي وسلامه عليه الذي قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء" فقد حث على نشر الخير بين الناس والعمل والإصلاح، بل إن هؤلاء الذين يصنعون الإصلاح في مجتمعاتهم ويدعون إليه هم سبب في منع نزول الهلاك على القرى حيث قال تعالى: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".آية 117 سورة هود.

ولأن الإسلام يدعو إلى الإعمار والتطور والحضارة، ونبذ الكسل والخمول، ورفعة أصحاب الصناعات والابتكارات، فقد رفع مكانة الإنسان الذي يحيي أرضًا ميتة ليست لأحد فقال: "من أحيا أرضًا مواتًا من غير أن يكون فيها حق مسلم فهي له وليس لعرق ظالم حق" فالذي يأتي لأرض موات ليس لأحد وليست متعلقة بمصلحة بلدة أو قرية فأحياها بالزراعة والعمارة فهي له تقديرًا لصناعته وحركته، فهو الفاعل الصانع في الأرض، وحقه أن يُرفع ويُكرم في المجتمع، ومن تكريمه أن يملكها دون إذن السلطان.

رفع الإسلام مكانة سلمان الفارسي الذي كان صاحب فكرة حفر الخندق في غزوة الأحزاب، فكانت فكرته صائبة حمت البلاد والمسلمين بعون الله، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم مكانته وهو المبتكر المبدع حتى قال: "سلمان منا أهل البيت". وخصص له النبي صلى الله عليه وسلم وقتًا يجتمع معه فيه بالليل حتى غارت نساء النبي منه، تقول عائشة رضي الله عنها: "كان لسلمان مجلس من رسول الله بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله" تكريم لمن يفكر ويبتكر ويبدع في حماية الأمة وازدهارها. ففاعل الأشياء حقه أن يُرفع في الأرض وعند الله يوم القيامة بإذن الله.

لئن كان العرب يقولون في فاعلٍ – في النحو مرفوع لا جر ولا نصبُ

فلا خير في بريق بلاد أمة – تصاب بخيرات ليس فيها تتعبُ

...